من نصف قرن، نحن في 1975، مع بداية الربع الأخير من القرن العشرين، العالم يموج برياح التغيير الفاصلة بين ثورة وتمرد الستينيات وتصالح ورجعية الثمانينات، والسينما التي رسخت مكانتها في حياة البشر باعتبارها الفن الشعبي الأول وفي تاريخ الفنون لكونها الفن الأحدث والأكمل والأجمل.
1975، عام رأت فيه مجلة Sight & Sound البريطانية محطة استثنائية في تاريخ السينما، فأفردت غلاف وأكبر ملفات عددها الأخير للتذكير بأهم أفلام العام والتاثير الذي تركته تحت عنوان “العام الذي غير تاريخ السينما إلى الأبد”.
ثورة تشيلي والأخضر حامينا
يضم الملف مقالات عن أهم الأفلام التي صدرت في ذلك العام لمخرجين بحجم ستانلي كوبريك، ستيفن سبيلبرج، ميلوش فورمان، سيدني لوميت، أنطونيوني، تاركوفسكي، كوروساوا، أنجلوبولوس، وغيرهم.
لم تكتف المجلة بالحديث عن الأعمال المشهورة، ولكنها راحت تفتش عن الأعمال التي ترى أنها اصطبغت بروح العصر، في نزعتها إلى التجديد والتمرد والثورة على التقاليد الإجتماعية والثقافية والفنية السائدة.
بعض هذه الأفلام كانت شديدة المباشرة، وشديدة الجرأة في طرحها السياسي، وتصديها للقوى الاستعمارية والرأسمالية وللأنظمة الديكتاتورية مثل الفيلم الوثائقي The Battle of Chile، للمخرج باتريشيو جوزمان، الذي يرصد في ثلاثة أجزاء، بإجمالي 263 دقيقة، ما حدث في تشيلي قبيل وأثناء الانقلاب العسكري الذي قام به الديكتاتور أوجستو بينوشيه، برعاية المخابرات الأمريكية، ضد أول حكومة ديموقراطية في البلاد، والقارة اللاتينية بشكل عام، والتي مهدت لفترة حكم قمعي امتد لسنوات طويلة.
ينتهي الجزء الأول بعملية قتل على الهواء مباشرة، لصحفي أرجنتيني يقوم بتصوير مظاهرة على يد جندي تشيلي، يتوقف ويصوب سلاحه، ثم يطلقه نحو (الكاميرا) في أحد المشاهد الخالدة في تاريخ السينما الوثائقية، ويعد الفيلم صرخة ودراسة استثنائية ضد الفاشية.
في 1975 فاز الفيلم الجزائري “وقائع سنوات الجمر” للمخرج محمد الأخضر حامينا بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان”، محققاً مفاجأة، وسبقاً لم يتكرر حتى الآن لفيلم عربي (باستثناء السعفة التي حصل عليها يوسف شاهين في 1997عن مجمل أعماله).
يتتبع حامينا، الذي رحل عن عالمنا في مايو الماضي عن عمر 95 عاماً، وقائع السنوات التي سبقت استقلال الجزائر خلال الفترة من 1939 حتى 1954، مع إندلاع الثورة الشاملة ضد الاحتلال الفرنسي.
كان فوزه صدمة كبيرة وصفعة على وجه اليمين الفرنسي، الذي لم يكن قد تعافى من تفكيره الاستعماري بعد، وقد تعرض الفيلم للانتقاد والاستبعاد لعقود، ولم يٌشاهد تقريباً، لولا أنه عاد إلى مهرجان “كان” الماضي في نسخة مرممة مرقمة.
أكبر مسابقات الأوسكار
شهدت مسابقة الأوسكار المخصصة لعام 1975 مجموعة من أفضل الترشيحات في تاريخها: Barry Lyndon لستانلي كوبريك، Dog Day Afternoon لسيدني لوميت، Nashville لروبرت ألتمان، Jaws لستيفن سبيلبرج، أما الذي فاز فكان One Flew Over The Cuckoo’s Nest، فيلم المخرج بولندي الأصل ميلوش فورمان، الذي يعد واحداً من أكثر الأفلام نقدا لمؤسسات السلطة، في استعارة مصحة الأمراض العقلية، التي تمارس القمع وغسيل المخ وتدجين سكان المصحة، وقد فاز الفيلم الذي أطلق نجومية جاك نيكلسون، كنموذج جديد للرفض والتمرد بجوائز أفضل فيلم وممثلة للويز فليتشر، وأفضل ممثل لنيكلسون.
نيكلسون لعب أيضا بطولة واحد من أفضل أفلام العام وأكثرها اختلافاً في الأسلوب عن دوره في “عش المجانين”، وهو فيلم The Passanger للإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، وهو فيلم ينتمي لما يعرف بالسينما التأملية، أو البطيئة.
ومثل The passenger، شهد العام عملاً تأملياً كلاسيكياً آخر هو رائعة الروسي أندريه تاركوفسكي The Mirror، ومن المعروف أن تاركوفسكي كان أحد المعجبين والمتأثرين الكبار بسينما أنطونيوني.
باستثناء Jaws، الذي حقق نجاحاً تجارياً هائلاً ولكنه يظل فيلماً مسطحاً، يعتمد على الإبهار عن طريق المونتاج والخدع التقنية، فإن العام شهد عدداً كبيراً من الأفلام الجريئة فناً ومضموناً، والتي وضعت حدوداً جديدة للسينما لم يصل إليها أحد من قبل، على الأقل في صناعة السينما السائدة.
كعادته، قام ستانلي كوبريك في Barry Lyndon بتجربة سينمائية جديدة في نوع دراما الفترة التاريخية period drama يعود فيها إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من خلال حكاية شاب طموح يسعى لتسلق الهرم الاجتماعي بأي وسيلة، وكالعادة، أيضاً، يصدر كوبريك نظرته النقدية المتشائمة للجنس البشري، وكأن العالم يخلو من المثاليات والمثاليين.
وكما هو معتاد مع أعمال كوبريك، كذلك، قوبل الفيلم بفتور جماهيري ونقدي، رغم أنه يعد الآن واحداً من روائع السينما وتحفها الفنية، خاصة لقيمه الإنتاجية (حيث أنتجه كوبريك بنفسه بجانب الإخراج والكتابة) وتصويره غير المسبوق الذي يتحول فيه كل “إطار” إلى لوحة فنية تشكيلية.
Nashville رائعة المخرج روبرت ألتمان الذي يهوى التجديد خاصة في طرق السرد، وعرف بأعماله التي تدور في مكان واحد خلال فترة زمنية قصيرة وعدد كبير من الشخصيات يتقاسمون البطولة.
يدور Nashville في الأيام التي تسبق حفل موسيقي محلي يقام في مدينة “ناشفيل”، وخلال 3 ساعات منهم حوالي ساعة من الموسيقى والأغاني يقدم ألتمان تجربة مختلفة وممتعة، وقد اكتسب الفيلم على مدار السنوات محبين كثيرين وشعبية أكبر.
عمل كلاسيكي آخر من انتاجات العام هو فيلم Dog Day Afternoon، الذي يوثق وقائع حادث سطو حقيقي حدث قبل صنع الفيلم بعامين، وقيام اللصوص بأخذ بعض موظفي البنك كرهائن.
الفيلم من بطولة آل باتشينو وجون كازال وعدد من ممثلي المسرح الأميركي الموهوبين، وقد حقق نجاحاً جماهيرياً ونقديا كبيرين وتحول إلى نموذج أصلي لأفلام ومسلسلات السطو على البنوك.
ومن مشاهده المميزة حين يصيح اللص سوني (باتشينو) في الميكروفون “أتيكا أتيكا”، مشيراً إلى واقعة الهجوم على سجن “أتيكا” وقتل عشرات المساجين الأميركيين الأفارقة، ما يستفز حشد الجمهور المتجمع أمام البنك، والذين يتعاطفون مع اللصوص!
أفلام الازعاج والقلق
من أهم أعمال 1975 بالتأكيد، رغم أن قيمته لم تكتشف سوى بعد ذلك بعقود، فيلمJeanne Dielman, 23 quai du Commerce, 1080 Bruxelles، أو كما يختصر اسمه عادة Jeanne Dielman، للمخرجة والمؤلفة شانتال إيكرمان، والذي أختير في استطلاع Sight &Sound الأخير لأفضل عشرة أفلام على مر الزمان في المرتبة الأولى، محققا مفاجأة مدوية لمعظم الناس.
“جين ديلمان” فيلم نسوي يروي معاناة أم وحيدة تضطر إلى بيع جسدها لتعيل ابنها المراهق، وصولاً إلى لحظة انفجار عشوائية ومجنونة، وكالعادة في الفن ليس المهم هو الحكاية، ولكن الطريقة التي تروى بها.
هنا، على مدار ثلاث ساعات كاملة لا يحدث شئ تقريباً، مجرد رصد للحياة اليومية المملة للمرأة بين إعداد الطعام أو الذهاب للسوق أو استقبال رجل غريب في سريرها لبضعة دقائق، وتكمن قوة الفيلم في ذلك التأثير المتنامي ببطء على المشاهد إلى أن يستولي عليه تماماً في النهاية.. هذا طبعاً إذا بقي المشاهد في مقعده ولم يغادر القاعة (أو يغلق الشاشة) بعد نصف ساعة أو ساعة من مرور الفيلم (أعتقد أنه إذا صبر في الساعة الأولى سيكون من الصعب عليه ترك الفيلم بعدها). ينتمي “جين ديلمان” لما يعرف بالسينما البطيئة التي لا يحبها معظم الجمهور وكثير من النقاد.
ويعلق آدم نيمان في مقدمته لملف Sight &Sound بأن الناقدة الأميركية الشهيرة باولين كايل وصفت فيلم Jeanne Dielman بأنه يجعل المشاهد يشعر بأنه يتقدم في العمر (بسبب بطء الفيلم)، ويضيف أن Jeanne Dielman يهدف إلى ذلك بالفعل، مستشهداً بمقولة إيكرمان: “مع أفلامي، أنت تشعر بكل ثانية تسري في دمك”!
ربما لا يكون Jeanne Dielman أعظم فيلم في تاريخ السينما، ولكنه بالتأكيد واحد من الأعمال العظيمة التي تميز بها 1975، وأكثرها اختلافاً وتمرداً فنياً واجتماعياً.
ولكن مع كثرة الأفلام المتمردة والمثيرة للجدل التي صدرت في 1975، فإن الفيلم الأكثر إثارة للقلق والإنزعاج في ذلك العام، وربما كل الأعوام، هو فيلم Salo للإيطالي بيير باولو بازوليني.
مستلهماً رواية “128 يوم في سودوم” (من سادوم وعمورة) للماركيز دي ساد (الذي أخذ منه اسمه مصطلح “السادية”)، يضع بازوليني الأحداث الخيالية المروعة لفيلمه بين جنبات أحد قصور الأرستقراطية خلال فترة الفاشية، ليكشف عن بشائع الديكتاتورية من ناحية، وأمراض النفس البشرية من ناحية ثانية.
وصف فنسنت كانابي، ناقد صحيفة، New York Times فيلم Salo بأنه “ينزع الإنسانية عن الروح الإنسانية، التي يفترض أن تكون شاغل أي فنان”.
Salo فيلم مرهق للنفس ومنفر في بعض الأحيان، ولكنه أحد روائع ما يطلق عليه “جماليات القبح والبشاعة”، ويمكن مقارنته مثلاً بأعمال رسام العصور الوسطى الهولندي هيرونيموس بوش (1450- 1516) الذي تخصص في رسم بشاعات وأهوال يوم القيامة!
“سالو”، بطريقة مماثلة، يرسم أهوال الحرب العالمية وما تلاها من اضطرابات وحروب باردة وقمع للشعوب، التي نجدها في الكثير من أعمال 1975، ولكنها هنا أكثر تحريضية وإقلاقا للمشاهد.
بدرجة أقل شهد العام أيضاً عدداً من الأفلام المماثلة في إقلاقها للمشاهدين وللنقاد المحافظين منها The Rocky Horror Picture Show للمخرج جيم شارمان، الذي ينتمي لنوع “الرعب” شكلياً، ولكن المختلف فيه أنه يقدم الرعب في إطار موسيقي غنائي كوميدي، وهو من أوائل الأعمال التي ربطت موسيقى الروك بالغيبيات والرعب، ومكمن التأثير فيه أن الرعب والتقزز يتسلل إلى المشاهد عن طريق الإستعراضات والأغاني والأسلوب الكوميدي، ما يحدث حالة من الارتباك لدى المشاهد.
ومثل Salo يدور The Rocky Horror Picture Show داخل قصر أرستقراطي يسكنه مسخ سادي، يمكن تأويله بمعانٍ سياسية وإقتصادية مختلفة، وبالمناسبة تم اقتباس هذا الفيلم بعد سنوات في فيلم “أنياب” للمخرج المصري محمد شبل، غير أن شبل أضفى على الفكرة دلالات سياسية واجتماعية مباشرة في مصر ما بعد الانفتاح الإقتصادي.
شهد 1975 أيضا صدور الفيلم الكندي Shivers، للمخرج الكبير ديفيد كروننبرج، الذي كان شاباً متمرداً ومجدداً في بداية مسيرته، وهو ينتمي لنوع الرعب أيضاً، وكعادة أفلام كوننبرج يحتوي على مشاهد صعبة، ما أثار ردود فعل غاضبة وعنيفة وصلت إلى تهديد صانعه بالترحيل من كندا!
جواهر من العالم
على المستوى العالمي شهد 1975 أيضاً عدداً من الروائع القادمة من بلاد أخرى والتي تذكر بعضها المجلة، مثل الفيلمين الفرنسيين، الوثائقي Daguerreotypes للمخرجة الكبيرة أجنيس فاردا، والروائيIndia Song الذي قامت بكتابته وإخراجه الأديبة مارجريت دوراس، ومن اليونان فيلم The Travelling Players للمخرج الشاب وقتها تيودوروس أنجلوبولوس صاحب الروائع، وهو يعد من أفضل أفلامه.
ومن آسيا هناك الفيلم الياباني Dersu Uzala رائعة المخرج أكيرا كوروساوا، وSholay الهندي الذي أطلق نجومية أميتاب باتشان، والفلبيني Manila In The Claws Of Light للمخرج لينو بروكا.
ومن إفريقيا (بجانب “وقائع سنوات الجمر”) الفيلم السنغالي Xala رائعة “أبو السينما الإفريقية” عثمان سمبين، الذي رحل عن عالمنا في العام الماضي.
ومن أستراليا فيلم الغموض Picnic At Hanging Rock للمخرج الصاعد الواعد، وقتها، بيتر واير، والذي ينتمي إلى ما يعرف بسينما “الموجة الجديدة” في أستراليا.
ملف Sight &Sound دعوة مفتوحة لتذكر هذه الأعمال (وغيرها)، وإعادة مشاهدتها واكتشافها، خاصة أن معظمها يتم ترميمه وإعادة إصداره في نسخ رقمية حديثة، وهو ملف يؤكد أن الفن الحقيقي يكتسب قيمة وألقاً مع الزمن، وأن مرور نصف قرن قادر فقط على إظهار الأعمال العظيمة وجمالها بشكل أفضل.
* ناقد فني