مجموعة الإبراهيمي وتحولات التشكيل العراقي خلال قرنين

في أواخر التسعينيات، شرعَ الطبيب العراقي حسنين الإبراهيمي، في رحلة بحث لاقتناء أعمال تشكيلية عراقية. لم يكن الأمر مجرد عملية جمع، بل مشروعاً توثيقياً ممنهجاً، سعى لاستعادة الأعمال الأصلية الموزّعة بين المزادات والممتلكات الخاصة، أو الموجودة في حوزة عائلات الفنانين.
على مدى 30 عاماً، تمكّن الإبراهيمي من بناء مجموعة فنية مهمّة، ضمّت مئات اللوحات والأعمال النحتية والخزفية النادرة، التي أبدعها نخبة من الفنانين التشكيليين في العراق، تنقّلت بين عمّان وبغداد، ضمن قاعات “مجموعة الإبراهيمي للفنون التشكيلية”، التي أصبحت من أهم المجموعات المعنية بتوثيق الفن التشكيلي العراقي عبر مراحله المختلفة.
الجزء الأول: متحف في كتاب
رغم غنى التجربة التشكيلية العراقية، إلا أنها لم تحظَ بتوثيق وافٍ يجمع محطاتها المختلفة في مرجع متكامل، واقتصرت المحاولات السابقة على جهود فردية لم تكن كافية لإنصاف هذا الفن العريق.
لذلك، وفي عام 2022، أصدر الإبراهيمي الجزء الأول من سلسلته التوثيقية تحت عنوان “متحف في كتاب، إضاءات على تاريخ وتطوّر الفن التشكيلي في العراق”، وهو مجلّد مؤلف من 431 صفحة من القطع الكبير، يتضمن صوراَ ولوحات ملوّنة، تعكس مسيرة الفن العراقي عبر مراحل زمنية متعاقبة.
يقول الإبراهيمي حول عمله لـ”الشرق”: “ما دفعنا هو رغبتنا الشديدة في أن نقدّم شيئاً من الدعم في ظل هذا الفقد الهائل للتراث الإنساني، والأثر الإبداعي، وغياب التوثيق الذي شمل كل أجناس المعرفة في العراق، وصار لزاماً على كل عراقي أصيل ومثقف، أن يأخذ على عاتقه ويشارك ضمن إمكاناته، في توثيق وحفظ التراث والذاكرة الفنية والثقافية”.
هذا الإصدار يُعدّ توثيقاَ للحركة التشكيلية في العراق، ويستعرض نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر ومسيرتها عبر مختلف المراحل الزمنية. كما يتناول تطوّر الفن التشكيلي بأسلوب متسلسل، ولمحات عن أبرز الفنانين وتحليلات نقدية لأعمالهم، واستعراض السياقات التاريخية والاجتماعية، التي ساهمت في تشكيل الاتجاهات الفنية المختلفة.
الجزء الثاني: الفن التشكيلي بين 1950 و 1970
لم يشتمل الجزء الأول على تاريخ الحركة التشكيلية في العراق بشكل كامل، لذلك قرّر الإبراهيمي مواصلة توثيق هذه الحركة عبر سلسلة متكاملة.
يقول: “استغرق المشروع الكثير من الجهد والوقت، من خلال كادر عمل تفرّغ بشكل كامل، كلّ ضمن اختصاصه. بدأنا تحرير نصوص الكتب بداية عام 2020، واستثمرنا فترات الحجر حتى تمكّنا من الانتهاء من المسودة الأولية لجميع الأجزاء مطلع عام 2022. سبقها جهد مستمر في تصوير الأعمال وأرشفتها وتوثيقها على مدى سنين”.
هكذا، خلال عام 2023، صدر الجزء الثاني من السلسلة بعنوان “إضاءات على تاريخ وتطوّر الحركة التشكيلية في العراق.. خمسينيون وستينيون – براعة التمرد وولع التجريب”.
قدّمت السلسلة لمحة شاملة عن الحراك التشكيلي خلال ثلاثة عقود (1950 – 1970)، متتبعاً أبرز الأحداث السياسية والثقافية بين عامي 1934 و2003، واستكشاف تأثيراتها العميقة على مسارات الفن وأساليبه التعبيرية.
كما سلط الضوء على جيل الستينيين (1930-1938)، مستعرضاً أعمالهم ورؤاهم الفنية ونهجهم الإبداعي، فضلاً عن المدارس والجماعات التشكيلية التي برزت خلال تلك العقود، موضحاً تأثيراتها وأساليبها الفنية.
واحدة من القضايا المحورية التي نطالعها في الكتاب، العلاقة الوثيقة بين الإبداع الفني والتحوّلات الاجتماعية والسياسية. ويستعرض كيف استجاب الفنانون لمختلف الأيديولوجيات التي شهدها العراق، من التيارات القومية واليسارية إلى التأثيرات الغربية والإسلامية، وانعكاس ذلك على أساليبهم الفنية، ونشوء جماعات تشكيلية تبنّت رؤى وأساليب عبّرت من خلالها عن التوترات المجتمعية والسياسية.
الجزء الثالث: بين التراث والحداثة
يواصل الجزء الثالث من السلسلة، الصادر عام 2023، استكشاف مسيرة الفن التشكيلي العراقي، مع التركيز على أجيال الستينيين والسبعينيين، وما شهدته تلك الفترة من تحوّلات فنية وفكرية بارزة.
يمتدّ هذا الجزء على 493 صفحة، ليكون بذلك مجموع صفحات السلسلة 1433 صفحة، ما يضعها كمرجع أكاديمي غني بالدراسة والشرح، يعرض تطوّر الفن التشكيلي في العراق ويوضح التأثيرات التي شكّلت أساليب الفنانين خلال تلك الفترات.
كما يتناول هذا الإصدار التفاعل بين النتاج الفني والتغيّرات الثقافية والاجتماعية، موضحاً كيف استلهم الفنانون من الإرث الرافديني والتقاليد الإسلامية، في الوقت الذي تأثّروا فيه بالتيارات العالمية.
يبرز الكتاب تأثير التغيّرات السياسية على أسلوب الفنان، مشيراً إلى دور الأحداث الكبرى، مثل ثورة 14 تموز 1958، والانقلابات التي تلتها، إذ دفعهم المناخ الفكري المتحوّل إلى البحث عن أساليب تعبيرية جديدة في الفن التشكيلي، متجاوزين القوالب التقليدية نحو رؤى أكثر تجريبية وتجدداً.
كما يحتوي على مجموعة واسعة من الصور التوثيقية واللوحات، مع تصنيف دقيق للفنانين وفقًا لاتجاهاتهم الفنية والفكرية، وكيفية تفاعلهم مع الحركات العالمية، مع حفاظهم على الطابع المحلي المتجذر في الهوية العراقية.
في هذا السياق، يشير الإبراهيمي إلى أن العمل على هذه السلسلة التوثيقية “تمّ وفق أسس ومعايير علمية مهنية واحترافية، بعيداَ عن أي تفضيل لفنانين أو نقّاد على حساب آخرين، واستناداً إلى قاعدة بيانات واسعة، جُمعت من أكثر من 1800 مصدر ورقي ورقمي، فضلاً عن الاستعانة بعشرات الخبرات والشهادات التحريرية والكتابية، لتوثيق سِير الفنانين وأعمالهم”.
الجزء الرابع: جيل الثمانينيات والتسعينيات
عام 2024، صدر الجزء الرابع من السلسلة، الذي يعدّ توثيقاً لإنتاجات جيل الثمانينيات والتسعينيات، وتبرز فيه أعمال 92 فناناً وفنانة.
يعتمد الإبراهيمي تعريفاً موسعاً لجيل الثمانينيات، يشمل مواليد 1950-1970، مع امتداد زمني يصل أحياناً حتى منتصف السبعينيات. هذا الجيل عاش تحولات كبرى، وشهد ثلاثة حروب مدمّرة، ومرّ بتجربة مريرة من الحصار الاقتصادي، ليجد نفسه في مواجهة الاحتلال العسكري عام 2003، وما أعقبه من انهيارات.
تميّز الفنانون في هذه الحقبة بمحاولاتهم التعبير عن الواقع النفسي والاجتماعي المعقّد، إذ واجهوا ظروفاً قاسية فرضتها الحروب المتتالية، والحصار الاقتصادي، والانهيارات السياسية. ولم يكن الرسم بالنسبة لهم مجرد ممارسة فنية، بل وسيلة للبقاء والتعبير.
العالمية ومستقبل التوثيق
إلى جانب الأجزاء الأربعة التي تم إصدارها، صدرت نسخة باللغة الإنجليزية عن دار النشر العالمية “سكيرا”، تضم مختارات من أعمال المجموعة. وبحسب الإبراهيمي، “فإن هذا الإصدار يهدف للوصول إلى المجتمع العالمي، وتعريف غير الناطقين بالعربية بالإرث الفني العراقي”.
وعن مستقبل المشروع قال: “نعمل الآن على الجزء الخامس من إصداراتنا، وسيتضمن أعمال النحت والسيراميك والتخطيطات، ويتوقع صدوره في الربع الثاني من هذا العام 2025”.
كما أشار إلى خطة مستقبلية لإصدار طبعة ثانية من الإصدارات الأربعة السابقة، بحيث تشمل التحديثات والمستجدات التي طرأت منذ إصدار النسخ الأولى حتى الآن.