في خطاب بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتوليه العرش، حدد ملك المغرب محمد السادس التوجهات الكبرى للمرحلة المقبلة لبلاده، مركزاً على استكمال التحول الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية، والانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي.
وتضمن خطاب ملك المغرب الذي ألقاه الاثنين، محاور متعددة شملت الأداء الاقتصادي، السياسات الاجتماعية، البنيات التحتية، إلى جانب قضايا إقليمية واستراتيجية مثل العلاقات المغاربية، ونزاع الصحراء.
وفيما يرى محللون أن الخطاب يعكس رغبة في تثبيت موقع المغرب كدولة صاعدة ذات شراكات متوازنة، ويؤكد على ثوابت السياسة الخارجية القائمة على الحوار والانفتاح، فإنه في الوقت ذاته يتضمن دعوة صريحة إلى تسريع الإصلاحات الاجتماعية وتقليص الفوارق المجالية، استناداً إلى معطيات ميدانية حديثة كشف عنها الإحصاء العام للسكان 2024.
ويشير مصطلح “الفوارق المجالية” إلى التفاوت التنموي بين المدن الكبرى والمناطق القروية أو الجبلية.
استراتيجية للتحول الصناعي
وقال الملك محمد السادس، إن المغرب بات “أرضاً للاستثمار وشريكاً موثوقاً”، مشيراً إلى أن الاقتصاد المغربي يرتبط بما يزيد عن 3 مليارات مستهلك عبر العالم، بفضل شبكة من اتفاقيات التبادل الحر مع شركاء في أوروبا وأميركا وإفريقيا والعالم العربي.
وأبرز أن هذا المسار لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة “رؤية بعيدة المدى وصواب الخيارات التنموية الكبرى”، إلى جانب الاستقرار السياسي والمؤسسي الذي تنعم به البلاد، وهو ما ساعد على بناء اقتصاد متنوع وتنافسي، منفتح على محيطه.
ورغم التحديات المرتبطة بجائحة كورونا، والجفاف المتكرر، وتوتر الأسواق العالمية، أشار ملك المغرب، إلى أن الاقتصاد الوطني حافظ على معدل نمو منتظم، مدفوعاً بقطاعات صناعية واعدة، خصوصاً السيارات والطيران والطاقات المتجددة والصناعات الغذائية.
وتضاعفت الصادرات الصناعية منذ عام 2014، في وقت تعمل فيه الحكومة على استكمال منظومة البنيات التحتية من خلال مشاريع استراتيجية مثل تمديد خط القطار فائق السرعة بين مدينتي القنيطرة ومراكش، وتعزيز قدرات البلاد في الأمن المائي والغذائي والطاقة النظيفة.
من النمو إلى العدالة الاجتماعية
وعلى من النمو الاقتصادي الذي شهدته البلاد، لم يغفل الخطاب وجود فجوة بين هذا النمو من جهة، وتوزيع ثماره من جهة أخرى، حيث دعا ملك المغرب صراحة إلى “الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة”، بما يضمن أن يستفيد جميع المواطنين من ثمار التقدم، دون تمييز بين الجهات أو الفئات.
وشدد على أنه “لا مكان اليوم ولا غداً لمغرب يسير بسرعتين”، مشيراً إلى أن بعض الجهات لا تزال تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب نقص في البنى التحتية والخدمات الأساسية.
في هذا السياق، دعا ملك المغرب الحكومة إلى بلورة جيل جديد من برامج التنمية المجالية، يستند إلى مبدأ الجهوية المتقدمة (أي نقل صلاحيات واسعة من الحكومة في العاصمة الرباط إلى المناطق المختلفة)، وتثمين المؤهلات المحلية، وتوحيد جهود الفاعلين حول أولويات واضحة، خاصة في مجالات التشغيل والتعليم والصحة.
ويرى المحلل الاقتصادي وأستاذ قانون الأعمال في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء بدر الزاهر الأزرق، أن ملك المغرب نبّه إلى “مكامن الخلل” التي يجب الالتفات إليها على مستوى التنمية، وفي مقدمتها “التفاوت المجالي”.
وقال الأزرق لـ”الشرق”، إن الاستثمارات العمومية والخدمات تتركز في المدن الكبرى، فيما تسير وتيرة التنمية بشكل بطيء في مناطق أخرى، وهو ما يعيق التقدم وتحقيق أهداف التنمية البشرية.
وذكر أن ضبط هذا التفاوت “يقتضي تقوية الروابط التضامنية بين الجهات ومختلف المحاور الاقتصادية”، تصحيحاً لمسار الجهوية الذي منح استقلالية للجهات في تدبير واستغلال مواردها الاقتصادية.
تحديات الحماية الاجتماعية
واستند ملك المغرب في تشخيصه للتحولات الاجتماعية إلى نتائج الإحصاء العام للسكان 2024 والذي أظهر تراجعاً كبيراً في نسبة الفقر متعدد الأبعاد، من 11.9% في 2014 إلى 6.8% في 2024، وبلوغ المغرب عتبة “الدول ذات التنمية البشرية العالية”، وفق التصنيف الأممي.
غير أن هذه المكاسب، بحسب الخطاب، لا تخفي استمرار الحاجة إلى تعميم الحماية الاجتماعية، وتوجيه الدعم المباشر للأسر المحتاجة، خصوصاً مع التحولات في بنية الأسرة المغربية، وتوسع الطبقة الوسطى، وارتفاع توقعات المواطنين فيما يخص الخدمات العمومية.
وأشار بدر الزاهر الأزرق إلى أن مسألة التشغيل والاستثمارات على المستوى المحلي “تحظى بأهمية كبرى بالنسبة للنموذج التنموي الذي نحن بصدد تنفيذه”.
ولفت إلى أن ملك المغرب أكد أنه لا يمكن الاستمرار في سياسات عمومية “غير منتجة للشغل، غير منتجة للقيمة، غير منتجة لنسب نمو تباعدنا أكثر فأكثر مع نسب الفقر والهشاشة”.
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي ورئيس مرصد العمل الحكومي محمد جدري، إن النموذج التنموي الجديد في المغرب يستهدف مضاعفة الناتج الداخلي الخام من 130 مليار دولار في عام 2021 إلى 260 مليار دولار في 2035 مشيراً إلى عدد من القطاعات التي تقود هذه الرؤية في مقدمتها صناعة السيارات والطيران، فضلاً عن قطاعات السياحة والخدمات.
وأضاف جدري لـ”الشرق”، أن الخطاب الملكي حمل توجيهات للحكومة بإعادة النظر في عدد من خطط التنمية، بهدف خلق الثروة في المناطق التي ما زالت تعاني الفوارق، وضمان الخدمات الأساسية خاصة الصحة والتعليم لتقليص التفاوتات المجالية.
ويرى أن حل هذه الإشكالية يمكن أن يرفع نسب النمو في المغرب لمعدلات تقترب من 7 و8%، وبالتالي تحقيق الأهداف التنموية المسطرة في أفق عام 2035.
حوار مع الجوار
وعلى المستوى الإقليمي، أعاد الملك محمد السادس التأكيد على انفتاح المغرب على محيطه، خصوصاً تجاه الجزائر، قائلاً إن “الشعب الجزائري شعب شقيق، تجمعه بنا روابط اللغة والدين والجغرافيا والمصير المشترك”.
وجدد دعوته إلى “حوار صريح ومسؤول” مع القيادة الجزائرية، لتجاوز الخلافات السياسية، في ظل غياب قنوات رسمية بين البلدين، منذ قرار الجزائر قطع العلاقات في عام 2021.
واعتبر ملك المغرب أن تمسك بلاده بهذا الانفتاح “نابع من إيمانه بوحدة الشعوب المغاربية، وقدرتها على بناء مغرب عربي قوي ومتضامن”، مشدداً على أن “اتحاد المغرب العربي لن يكون بدون انخراط المغرب والجزائر”.
فيما يخص النزاع الإقليمي حول الصحراء، أعرب الملك عن اعتزازه بما وصفه بـ”الدعم الدولي المتزايد” لمبادرة الحكم الذاتي التي تقترحها المغرب تحت سيادتها، بوصفها الإطار الوحيد الواقعي والعملي لتسوية النزاع، مشيداً بمواقف بريطانيا والبرتغال التي انضمت مؤخراً إلى الدول المؤيدة للحل المغربي.
ويُنظر إلى مبادرة الحكم الذاتي، التي طرحت لأول مرة عام 2007، كإطار يمنح سكان الأقاليم الصحراوية تدبير شؤونهم المحلية تحت السيادة المغربية، وقد حظيت بدعم واشنطن وعدة دول إفريقية وعربية وأوروبية.
استحقاقات سياسية مقبلة
على الصعيد الداخلي، دعا ملك المغرب إلى توفير الإطار القانوني والتنظيمي للانتخابات التشريعية المقبلة، المقررة سنة 2026، مشدداً على أهمية أن يكون القانون الانتخابي معتمداً قبل نهاية السنة الجارية، ضماناً للشفافية والاستقرار المؤسساتي.
كما وجه ملك المغرب، تعليماته لوزير الداخلية لبدء المشاورات السياسية مع مختلف الفرقاء.