ادعى المدير السابق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد)، يوسي كوهين، في كتابه “بالأحابيل تصنع لك حرباً”، الصادر أخيراً، أنه صاحب خطة تهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة خلال الحرب الحالية، وزعم أن فكرته لم تكن تنص على تهجير دائم، بل “مؤقت”.
وتحدث كوهين، في الحلقة الثالثة والأخيرة من القراءة المطولة التي أجرتها “الشرق الأوسط” في كتابه، عن أساليب عمل “الموساد” وطرق تجنيد العملاء، مشيراً إلى أنه لعب في إطار عمله الاستخباراتي دور “خبير آثار” في لبنان، و”تاجر شاي” في السودان.
يحمل كتاب كوهين عنوان “بالأحابيل تصنع لك حرباً” في النسخة الصادرة باللغة العبرية، بينما يحمل باللغة الإنجليزية عنواناً مختلفاً هو “سيف الحرية: إسرائيل الموساد والحرب السرية”.
وقال كوهين إنه كان صاحب خطة ترحيل نحو 1،5 مليون فلسطيني من غزة إلى شبه جزيرة سيناء في مصر، رداً على هجوم حركة “حماس” في 7 أكتوبر 2023، موضحاً أن خطته كانت تقضي بأن “تكون الهجرة مؤقتة”، مشيراً إلى أن مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي وافق على الخطة، وقرر تكليفه بإقناع دول عربية بها، باعتبار أنها تهدف إلى خفض عدد الإصابات بين المدنيين.
وبالفعل، سافر كوهين، كما يقول، إلى عواصم عربية، لكنه وجد أن العرب يخشون أن يتحوّل الترحيل “المؤقت” إلى ترحيل أبدي، فقال لهم إنه مستعد للحصول على ضمانات دولية بأن تكون الهجرة مؤقتة، وأجرى اتصالات بهذا الشأن مع كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، واليابان، والصين، والهند، لكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حسم الأمر، ورفض الخطة بشكل قاطع.
وعندها كان هناك اقتراح أن يتولى كوهين نفسه مهمة رئيس فريق التفاوض في مباحثات تبادل الأسرى، لكن رفاقه من قادة الأجهزة الأمنية في إسرائيل أجهضوا الخطة.
الغرور وفشل الدعاية الإسرائيلية
يكرر يوسي كوهين، في كتابه، عدة مرات ضرورة أن يتمتع القادة الإسرائيليون بصفة التواضع، لكنه في الوقت نفسه يبدو كأنه يكرر أخطاء الغرور، فعلى سبيل المثال، يعرب عن دهشته من وقوف كثيرين في العالم ضد إسرائيل؛ بسبب حربها على قطاع غزة، وكيف ينشرون الأفلام الواردة من القطاع بكميات كبيرة.
وبدلاً من أن ينتقد كوهين الأعمال الوحشية التي طالت أهالي غزة، وأودت بحياة عشرات الآلاف منهم بحجة ضرب “حماس”، يرى أن المشكلة تكمن في فشل الدعاية الإسرائيلية، معتبراً أن تل أبيب لا تكرس ما يكفي من الجهد لإظهار الحقائق، وتسويق مواقف إسرائيل، في المقابل، يتجاهل أن اللوبي الإسرائيلي في العالم يتمتع بنفوذ هائل في الإعلام الأجنبي، كما أنه يتجاهل أن يهوداً كثيرين انضموا إلى حملات الاحتجاج على تصرفات إسرائيل.
يذهب كوهين أبعد من ذلك للقول إن القادة الإسرائيليين يبتعدون عن الشعب، ويفتقرون للأحاسيس الإنسانية، والرحمة إزاء الإسرائيليين، ولذلك لا يشعرون بآلامهم بشكل كافٍ، وبالتالي لا يعرفون كيف يعكسون للرأي العام العالمي، وحتى المحلي، حقيقة المعاناة التي يعيشها الناس، وهذا يجعل العالم عرضة لتأثير “حماس” ودعايتها، على حد قوله.
ويقول إنه رغم العمليات الوحشية التي تعرض لها سكان بلدات محيط غزة، الذين عُرفوا بأنهم أنصار سلام، وبينها الاغتصاب الجماعي، وقطع الرؤوس، والتمثيل بالجثث، وإحراق الأطفال، راح العالم يطالب إسرائيل بوقف الحرب، ومعلوم أن إسرائيل تؤكد أن “حماس” ارتكبت هذه الأفعال خلال عملية “طوفان الأقصى”، لكن الحركة تنفي ذلك.
وعرض كوهين، شكل الدعاية التي يجب على إسرائيل أن تتبناها، وقدّم تصريحات القائد في “حماس”، خالد مشعل، مثالاً لذلك، إذ قال إنه يرفض حل الدولتين، ويريد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين من النهر إلى البحر، ويؤكد كوهين أنه لا يمكن إقامة السلام مع من لا يعترف بحقك في الوجود، لكنه يتجاهل بالطبع أن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني، ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعترفت بإسرائيل في اتفاقات أوسلو، وتطالب بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على مساحة 22% من فلسطين، هي أيضاً تتعرض لتنكيل إسرائيل التي تعمل كل ما في وسعها حتى تضعفها، وتقصيها.
قال كوهين إنه معجب بالملاكم الراحل محمد علي كلاي، الذي كان يقول إن النصر أو الهزيمة يتحققان بعيداً عن أنظار الجمهور، أي قبل أن يعتلي حلبة الملاكمة، موضحاً: “عندما أكون في مرحلة التدريب، أو أسافر بالسيارة، قبل أن أبدأ الرقص على الحلبة بكثير”.
وأضاف كوهين: “كنت صبياً يتخيل نفسه وكيلاً يتجسس بعيون صقر، وبخبث الثعلب، وبقدرة النمر على الوثوب، وعندما يؤدي المهمة، يتمتع بصبر القناص، وعفوية الساحر، ويواجه حظوظ أداء مهمات في بيروت، وغزة، والخرطوم، وغيرها”.
وتحدث عن ضرورة أن يحرص رجل “الموساد” على التفوّق أمام مقابليه، ويروي كيف تقلّد شخصية “خبير آثار” في بعلبك اللبنانية، وشخصية “هاوي جمع أكياس شاي” أمام تاجر شاي لبناني في السودان، وكشف عن أساليب عمل المخابرات الإسرائيلية في تجنيد عملاء، ليتبين أنها نفس الأساليب القديمة جداً التي استخدمت منذ بداية الجاسوسية قبل آلاف السنين، من خلال التفتيش عن نقاط الضعف الإنساني، واستغلال السلوكيات الشاذة، والبحث عن المصالح، وتضارب المصالح، والدوافع (مالية، أيديولوجية، جنسية، غراميات، كراهية وحسد، وغيرها).
وتابع مبرراً هذه الأساليب: “يجب أن يعرف الهدف أن لديه الكثير الذي سيخسره إذا لم يتعاون، وهكذا يتم الإيقاع به في أحابيل المخابرات الإسرائيلية، وفي أحيان كثيرة، عندما يكون الهدف ضابطاً كبيراً في الجيش السوري، أو عالم ذرة إيرانياً، أنت توقعه في أحابيلك لدرجة أن يقوم بعمل يمكن وصفه بالخيانة، فعندما يقع بالشرك، تستغله حتى آخر لحظة، لأنك تهدد بكشف خيانته”.
والأحابيل هي أهم شعار يستخدمه “الموساد”: “بالأحابيل تصنع لك حرباً”، وهو الذي اختاره كوهين اسماً لكتابه باللغة العبرية، ويقول إن مثله الأعلى هو كالان، بطل مسلسل “كالان” البريطاني، وأصبح اسم “كالان” أحد أسماء التغطية التي استخدمها في عملياته.
العالم مدين لمخابرات إسرائيل
قال كوهين إن “الموساد” يتابع التطورات في كل مكان يؤثر على إسرائيل مباشرة، أو بشكل غير مباشر، ويهتم بشكل عميق بالتطورات في إيران ولبنان وسوريا والعراق واليمن، والتنظيمات المسلحة التابعة، لكنه يرى أن هناك خطراً ماحقاً بالبشرية جمعاء يجب أن يأخذ الحيّز اللازم من الاهتمام لدى المخابرات، وهو أزمة المناخ، مشيراً إلى أنه شخصياً اهتم -ولا يزال يهتم- به حتى بعد ترك منصبه.
لكن قضية التعاون الدولي في موضوع المخابرات تعتبر أهم مشروع لـ”الموساد”، ويروي كيف طور العلاقات مع المخابرات في جميع أنحاء العالم، مشيراً إلى أن ذلك بدأ عندما نفذ تنظيم “داعش” عمليات في بلجيكا، عام 2016، ففي نفس اليوم الذي وقع فيه أحد الهجمات، تلقى كوهين إنذاراً ساخناً عن العمليات، لكن الإنذار جاء متأخراً، إلا أنه لم يمنعه من الاتصال بنظيره البلجيكي وإبلاغه، وأعطاه مزيداً من المعلومات التي ساعدت في التحقيق، ثم أبلغ، في العام نفسه، أستراليا بخطة لتفجير طائرة مدنية تعمل على خط أبوظبي- سيدني، وبفضل “الموساد” تم كشف الخلية مع أسلحتها ومواد التفجير الجاهزة، ومنع تنفيذ العملية.
واعتبر كوهين أن هناك دولاً كثيرة “مدينة” لـ”الموساد” بالكشف عن عمليات وخلايا إرهابية، ويقتبس عدداً من زملائه في قيادة المخابرات الألمانية والبريطانية والفرنسية والألمانية الذين قالوا له إن شعوبهم مدينة لإسرائيل بفضل ما كشفه “الموساد” عن خلايا إرهابية، ويقول إن إسرائيل أيضاً استفادت من تلك المخابرات.
ولا تخرج تركيا عن هذه القاعدة، فرغم العلاقات السيئة معها، إلا أن كوهين لم يتردد في إبلاغها بما يعرف عن “خلايا إرهابية” على أراضيها، موضحاً: “في صيف 2018، ساعدت إسرائيل تركيا على كشف معلومات عن خلايا إرهابية نفذت 16 هجوماً، رغم العلاقات السيئة بين البلدين”، واهتم كوهين بالتأكيد على أن قائد المخابرات التركية في ذلك الوقت كان هاكان فيدان، وزير الخارجية الحالي.
“القائد القوي هو الذي يقدّم تنازلات”
حاول كوهين في الكتاب أن يقدم صورة جيدة عن “الموساد”، لكنه أبرز نفسه أكثر من أي شخص آخر في فصوله، وهذا أمر مفهوم كون الكتاب يتناول مسيرته هو، ويقول منتقدون إن هدف كوهين واضح، وهو أن يصل إلى منصب رئيس الحكومة، إذ حاول أن يرد على كل سؤال يمكن أن يخطر على بال الإسرائيليين وغير الإسرائيليين، حتى يقنعهم بأنه أفضل من يصلح لهذا المنصب، خصوصاً في هذه الظروف العصيبة، ويمشي بين بحر من النقاط، كي يرضي جميع الأطراف، لكن الأهم أنه يقتبس أقوال المعجبين به، وبينهم يهود وعرب ويمينيون ويساريون ومتدينون وعلمانيون، إسرائيليون، وأجانب.
ولأولئك الذين يريدون أن تعيش إسرائيل في حرب أبدية، يقول إنه “بعد حرب أكتوبر 1973 لم يكن أحد ليصدق أنه بعد 5 سنوات فقط تم توقيع اتفاق سلام تاريخي مع مصر”.
واعتبر كوهين أن “القائد القوي هو الذي يقدّم تنازلات”، مشيراً إلى أنه بكى عند التوقيع على الاتفاق الإبراهيمي بين إسرائيل ودول عربية، وامتدح القادة العرب الذين التقاهم وأظهروا رغبة حقيقية بالسلام، لكن السلام، حسبما يرى، يكون فقط بعد إظهار القوة.
هذا المحتوى من “الشرق الأوسط”
