في خطوة تشريعية متكاملة ترسم ملامح استراتيجية اقتصادية جديدة لسوريا، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع حزمة من المراسيم التي تهدف إلى إعادة هيكلة البيئة الاستثمارية والقانونية في البلاد. فبالتزامن مع المرسوم رقم “114” لعام 2025، الذي أدخل تعديلات جذرية على قانون الاستثمار، صدر المرسوم رقم “113” القاضي بإنشاء “الصندوق السيادي”.

هذه الحزمة، التي لا يمكن قراءة بنودها بشكل منفصل بعضها عن بعض، تعكس رؤية طموحة لبناء الثقة وتفعيل الأصول العامة المتوقفة عن العمل، لكنها تفتح في الوقت ذاته نقاشًا عميقًا حول آليات الرقابة، والمنافسة الإقليمية، والمساواة الفعلية بين المستثمر المحلي والأجنبي.

رؤية متكاملة.. وتحديات الرقابة والحوكمة

يبدو أن المرسوم رقم “114” يهدف إلى توسيع أكبر للأفق الاستثماري في سوريا من خلال تعديل تعريف “الاستثمار” (المادة 1) ليشمل “تطوير وتوسيع” المشاريع القائمة، مما يفتح الباب أمام إعادة تأهيل آلاف المنشآت المتضررة، كما يسرّع من عودة عجلة الإنتاج.

تكمن أهمية هذه الحزمة التي أصدرها الرئيس الشرع في تكامليتها بين الصندوق السيادي (المرسوم 113) وقانون الاستثمار المعدّل (المرسوم 114). ومن ضمن هذه الرؤية، تم تعزيز مكانة هيئة الاستثمار عبر إعادة ربطها برئاسة الجمهورية وإعطائها طابعًا إداريًا عامًا، مما يمنحها وزنًا تنفيذيًا أكبر ويزيد من فعاليتها كمظلة وطنية موحدة للاستثمار. ولكن، هنا يبرز أحد أهم التحديات والمخاوف. ففي حين أن هذه الهيئات الجديدة أصبحت أكثر قوة، فإن آليات الرقابة عليها تبدو مركزة بشكل كبير في يد السلطة التنفيذية. في غياب سلطة تشريعية منتخبة (كمجلس الشعب) تمارس دورها في الرقابة والمساءلة، فإن ربط التقارير المالية لهذه الهيئات مباشرة بالرئيس يثير مخاوف مشروعة حول الشفافية والحوكمة.

أيضًا تغوص التعديلات الجديدة على قانون الاستثمار (المرسوم 114) عميقًا في معالجة المخاوف الجوهرية التي كبحت الاستثمار الأجنبي لسنوات، فقد أعطت التعديلات حصانة قضائية غير مسبوقة، فـ”المادة 20″ من المرسوم تشترط أن يكون أي قرار بالحجز على مشروع استثماري “مكتسبًا للدرجة القطعية” هو بمثابة درع حماية للمستثمر، يمنع استخدام القضاء كأداة ضغط أو ابتزاز. كما تضمن المرسوم السماح باللجوء إلى التحكيم في فض المنازعات، وذلك في “المادة 22″، وهذه المادة تمثل رسالة مباشرة لرأس المال الأجنبي، واعترافًا بأن الثقة تتطلب وجود طرف ثالث محايد لفض النزاعات الكبرى.

أيضًا في خطوة توازن بين جذب رأس المال وتحقيق التنمية المحلية، تضمنت التعديلات بندًا يلزم المشاريع الاستثمارية بأن يكون 60% على الأقل من العاملين فيها من المواطنين السوريين. هذا الشرط يكتسب أهمية استثنائية في ظل ارتفاع معدلات البطالة، ويضمن ألا تكون الاستثمارات مجرد عمليات اقتصادية معزولة، بل محركًا أساسيًا لخلق فرص عمل حقيقية للسوريين.

المستثمر المحلي والأجنبي..

مساواة على الورق وتحديات على الواقع

هنا يبرز أحد أكثر النقاشات جدلًا. فعلى عكس نماذج إقليمية ناجحة كالقانون التركي الذي يقوم على مبدأ “المعاملة الوطنية المتساوية” المطلقة، لا يزال القانون السوري، حتى بعد تعديله، يحمل تفضيلًا هيكليًا للمستثمر الأجنبي. يتجلى ذلك بوضوح في المواد التي تمنح الأجنبي حق تحويل أرباحه ورواتب عماله بالقطع الأجنبي، وهي ميزة ضرورية لجذبه، لكنها تخلق تفاوتًا مع المستثمر المحلي الذي قد يواجه صعوبات في الوصول إلى نفس المرونة المالية.

أما على صعيد الحوافز (الإعفاءات الضريبية والجمركية)، فإن القانون السوري يحقق المساواة على الورق، حيث لا يفرق بين المستثمرين بناءً على الجنسية. لكن هذه المساواة القانونية تصطدم بالواقع العملي؛ فالقدرة على الاستفادة القصوى من هذه الحوافز تعتمد على المرونة المالية والوصول السهل للعملة الصعبة، وهي مزايا قد تتوفر للمستثمر الأجنبي بشكل أكبر، مما يبقي المستثمر المحلي في موقف تنافسي أضعف.

سوريا في مواجهة المنافسة..

مقارنة مع النموذج التركي

عند وضع القانون السوري المعدل في سياق إقليمي، تبرز المقارنة مع تركيا كنموذج جذب استثماري ناجح. يتميز قانون الاستثمار التركي بمبدأ “المعاملة المتساوية” الذي يمنح المستثمر الأجنبي نفس حقوق وواجبات المستثمر المحلي دون تمييز. كما يقدم حزمة حوافز مرنة تعتمد على المنطقة الجغرافية ونوع القطاع.

من هذا المنطلق، تبدو التعديلات السورية خطوة مهمة للاقتراب من هذه المعايير في جانب الضمانات الأساسية. لكن التحدي التنافسي لا يزال قائمًا في جانب “الحوافز” و”المساواة الكاملة”، وهو ما قد يتطلب من سوريا في مرحلة لاحقة ليس فقط مراجعة حوافزها، بل تبني سياسات نقدية ومصرفية تدعم المستثمر المحلي لتمكينه من المنافسة على أرض الواقع.

التحديات الكبرى.. الطريق من النص إلى الواقع

إلى جانب تحدي الرقابة، تظل هناك عقبات عملية ضخمة تعيق المستثمرين يجب تجاوزها:

  • الوضع الأمني السيء: لا يمكن تجاهل أن الاستثمار يتطلب بيئة آمنة ومستقرة. إن الوضع الأمني الهش في بعض المناطق والترهل في مؤسسات الدولة يشكلان تحديًا حقيقيًا أمام أي مستثمر جاد، ويتطلبان جهودًا كبيرة تتجاوز مجرد التشريعات.
  • البيروقراطية والكفاءة الادارية: هل سيتمكن الجهاز الإداري للدولة من استيعاب هذه الفلسفة الجديدة وتطبيقها بروحها، أم ستتحطم هذه الضمانات على صخرة الروتين والفساد المتجذر منذ سنوات حكم النظام البائد.
  • قصور منظومة الحوافز: من السلبيات التي لم يعالجها التعديل هو أن الحوافز لا تزال تعتمد بشكل أساسي على التوزيع الجغرافي. في حين كان يمكن جعلها أكثر ديناميكية عبر ربطها بنوع القطاعات التي تحتاجها سوريا بشكل ملح (مثل الطاقة المتجددة، الصناعات الدوائية، التكنولوجيا)، لتوجيه الاستثمارات نحو الأولويات الوطنية.
  • البيئة الاقتصادية الكلية: إذ يبقى نجاح القانون مرهونًا باستقرار العوامل الاقتصادية الكلية، وعلى رأسها استقرار سعر الصرف، ووجود قطاع مصرفي قوي.

خلاصة القول، إن الحزمة التشريعية الاقتصادية الجديدة تمثل عقدًا اجتماعيًا جديدًا بين الدولة والمستثمر والمواطن. لقد تم وضع أساس قانوني طموح وجريء، ويبقى الرهان الآن على أمرين حاسمين: أولًا، القدرة على تحويل هذه النصوص إلى واقع ملموس عبر توفير الأمن وإصلاح الإدارة، وثانيًا، إيجاد آليات رقابة مؤسسية حقيقية وإصلاحات اقتصادية موازية تضمن الشفافية، وتخلق مساواة فعلية في الفرص، لتقود هذه الأدوات القوية سوريا نحو تنمية مستدامة وعادلة يستفيد منها الجميع.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.