مركز رمسيس ويصا واصف.. فن أوسع من الحرانية

على مقربة من أهرامات الجيزة، يقع مركز “رمسيس ويصا واصف للفنون” في قرية الحرانية. أسسه المعماري المصري المعروف رمسيس واصف قبل 75 عاماً، ويعدّ شاهداً على إبداع أجيال متعاقبة من أهالي القرية.
تتميز الأعمال بالعمالة المحلية، إذ أسس المهندس في بداياته جيلاً فنياً فطرياً من أبناء القرية العاملين في المركز، نسجوا لوحات من وحي خيالهم على المنسوجات والسجاد الفني المعروف بـ “الكليم”.
كما تتميّز بالألوان الطبيعية المستخرجة من نباتات زرعها المهندس في محيط المركز، وتكاد تكون نادرة في اليوم.
يملأ الإبداع أرجاء المكان، بدءاً من تصميم المباني والغرف المتجاورة، التي تمّ تشييدها من الطين، تعلوها القباب المستوحاة من الشكل التراثي للمباني المصرية القديمة، وتلك هي الفلسفة التي اعتمد عليها المهندس رمسيس في بناء مركزه، في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.
يقضي الفنانون ساعات يومياً داخل الاستوديوهات الخاصة بهم في المركز، لإنتاج أعمال جديدة تعبّر عن خيالهم الفطري، ويستغرق ذلك شهوراً لإنجازه على الأنوال.
الحِرفة والقرية
استحوذت هذه الحرفة اليدوية على مكانة كبيرة في قلب رمسيس ويصا واصف، منذ دراسته في كلية الفنون الجميلة في باريس، ونستدل على ذلك اختيار “بيت الحرفي – أو “بيت الخزاف على النيل” – مشروعاً لتخرّجه من قسم العمارة في الكلية.
تقول سوزان ويصا واصف ابنة الفنان، التي سارت على نهج والده: “كان المهندس مؤمناً أن الطاقة الإبداعية موجودة في الإنسان منذ ولادته، وأراد إثبات ذلك عن طريق النسيج، فنسج أول قطعة بيده على سبيل التجربة عام 1942، كي يتعرّف على طريقة هذا النوع من الفن”.
وتروي أن المهندس رمسيس بنى مدرسة في مصر القديمة عام 1942، لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، صمّمها على شكل العمارة المصرية التراثية الشهيرة بالقباب، وبنى فيها 4 فصول، واقترح بعد ذلك على إدارة المدرسة إعطاء الأطفال الفرصة لإبداع النسيج، بعد انتهاء اليوم الدراسي، ونجحت فكرته”.
عمِل المهندس الشاب على مدى سبع سنوات في المدينة، أراد أن يضيف ثقافة جديدة للقرية، فوقع الاختيار على قرية الحرانية، فراح يتردد أسبوعياً لدراسة طبيعة المكان.
المهندس إكرام نصحي مدير مركز رمسيس ويصا واصف، أوضح أن المهندس رمسيس “أراد اختيار قرية يعمل أهلها بالزراعة فقط، ولا يمتهنون حرفة أخرى، وانطبق ذلك على قرية الحرانية، فقام بشراء قطعة أرض مساحتها نصف فدّان”.
شيّد المهندس رمسيس استراحة صغيرة في القرية، وخلال زياراته، جاء إليه عدد من الأطفال للتعرّف عليه، كانوا يلعبون بجواره، فنشأت صداقة قوية مع هؤلاء، واستضاف في مركزه 15 طفلاً بين سن 9 و 10 سنوات، واقترح عليهم تجربة النسيج، فكانوا النواة الأولى لتشكيل الجيل الأول من الفنانين، ليتثبت صحّة أفكاره، بأن كل طفل لديه قدرة فطرية على الإبداع.
قواعد رمسيس
وضع رمسيس قواعد رئيسية في مركزه كي لا يتأثّر إبداع الأطفال، فأطلق لهم حرية التعبير عن خيالهم. ويشير نصحي إلى أن رمسيس لم يسمح للفنانين بالنقل من الصور الفوتجرافية، بل أراد أن يُخرج الإبداع بشكل فطري على النول أمامهم.
أما القاعدة الأخرى التي أرساها في مركزه، فهي عدم تنظيم زيارات للمتاحف الفنية، حتى لا يتم تقييد الأطفال بقالب فني محدد، كما شدّد على ضرورة عدم انتقاد الأطفال، فهو سيكتشف الخطأ مع مرور الوقت.
وقال نصحي: “نحن لسنا مدرسة لتعليم النسيج، بل نستخدم حرفة النسيج كوسيلة لإثبات الإبداع لدى الإنسان العادي”.
اصطحب رمسيس الفنانين في رحلات للأماكن الطبيعية سواء في الصحراء أو بجوار النيل، وهو ما يذكره الفنان علي سليم، أحد مبدعي الجيل الأول، الذي يعمل منذ أكثر من 65 عاما بالمركز.
يقول”جئت بصحبة أختي الكبرى إلى المركز عندما كان طفلاً، وشجّعني المهندس رمسيس على تجربة إبداع النسيج، فبدأت بنسج أشكال بسيطة في بداية الأمر، مثل النباتات والأزهار، ومع مرور الوقت تطوّرت موهبتي، ونسجت أشكالاً مختلفة من خيالي على السجاد”.
أبدع سليم مئات الأعمال الفنية خلال تلك العقود، ويعتبر أن “أهم ما يميّز حرفة النسيج، هو التحلي بالصبر، إذ إن نسج مساحة متر على النول، قد تستغرق شهراً بأكمله، وفي بعض الأحيان تأخذ وقتاً أكثر”.
ولفت إلى أن لوحته عن مصر، “التي تصل إلى 7 أمتار، وتضم المعالم الشهيرة بداية من الأهرامات، مروراً بالمساجد والكنائس ومعبد الأقصر، استغرق العمل فيها 3 سنوات”.
ثقافة جديدة
منذ تأسيس المركز قال رمسيس للفنانين، “ما تفعلونه ليس بالعمل الخيري، بل هو عمل بأجر، إذا أحببتموه سيكون هو مستقبلكم وباب رزقكم، وأيضا سعادتكم”.
ويوضح المهندس نصحي، أن رمسيس “جاء إلى مجتمع زراعي لا يعرف شيئاً عن النول، فكان يعطي أجراً للأطفال نظير عملهم، بدلاً من أشغالهم في الزراعة، فأدخل ثقافة جديدة هي ثقافة النسيج، التي شكّلت عملاً ودخلاً للفتيات للمرة الأولى خارج إطار الأسرة، وأصبح لديهن القدرة على الإدخار والإنفاق”.
الفنانة لطفية شعبان من الجيل الأول في المركز، وصفت عملها بأنه من أفضل محطات حياتها، تقول: “اختبرت هذه الحرفة وأنا في سن الرابعة عشرة، وبدأت بنسج المشاهد الطبيعية والنباتات والورود، واذكر سفري إلى فرنسا للمشاركة في أحد المعارض بصحبة المهندس رمسيس عام 1972، وكان حريصاً على تكريم الفنانين الذين أبدعوا تلك المنسوجات”.
تروي شعبان مراحل صباغة الصوف والخيوط داخل المركز، إذ يأتي الصوف باللون الأبيض، ويجتمع الفنانون على مدى أسبوع في كل سنة، لصباغة الصوف والقطن، مستخدمين الألوان الطبيعية التي تتم زراعتها داخل المركز.
ويوضح المهندس إكرام نصحي أن رمسيس “أجرى دراسات على النباتات التي كانت تُستخدم في الحضارات القديمة، وبقيت صامدة لآلاف السنين على المنسوجات”.
ويشير إلى أن “الألوان الأساسية التي نستخدمها في المركز مستخرجة من النباتات، مثل نبتة الفوة، التي تعطي اللون الأحمر، ونبتة النيلة للأزرق، والريزدا للأصفر، وكلها نزرعها في مركز ويصا واصف حتى يومنا هذا”.
قام رمسيس ويصا واصف بزراعة النباتات في قرية الحرانية عام 1957، لعلمه المسبق أن تلك النباتات ستختفي خلال العقود القادمة، وكانت تلك النباتات متواجدة في متاجر العطارين في خمسينيات القرن الماضي، لكنها غير متوفرة في الوقت الراهن.
فن عالمي
عرض الفنانون في مركز رمسيس ويصا واصف، أعمالهم الفنية على مدار تلك العقود، في مصر والعديد من دول العالم، وتذكر سوزان واصف أن بداية المعارض الخارجية انطلقت عام 1958، عندما تابع الملحق الثقافي السويسري حينها أعمال الفنانين بالحرانية، فاقترح تنظيم معرض في سويسرا سنة 1958، وتحديداً في مدينة بازل. بعد هذا المعرض تمّت دعوة المهندس رمسيس مع عدد من الفنانين في المركز إلى عدد من الدول الأوروبية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اقتنت متاحف في الخارج قطعاً فنية من أعمال الفنانين في مركز ويصا واصف، إذ اقتنى متحف الحضارة في باريس ثماني قطع فنية، وقام عمدة أنجيه في فرنسا بشراء قطعتين لعرضهم في المتحف الخاص بالنسيج في مدينته.
يستضيف المتحف المصري في برلين، في الثامن من أبريل المقبل، معرضاً فنياً بعنوان “خيوط الحياة المصرية”، سيعرض خلاله 30 عملاً من إبداع فناني الحرانية، في جاليري “جيمس سيمون” التاريخي، في جزيرة المتاحف.