مساعٍ لإحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية
– هاني كرزي
على مدار 14 عامًا، فشلت كل المحاولات الدولية والجهات الحقوقية في إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، في ظل معوقات كثيرة أبرزها “الفيتو” الروسي- الصيني، ما دفع بعض المنظمات الحقوقية إلى البحث عن سبل ومخارج قانونية، تساعد على إحالة هذا الملف لمحكمة الجنايات، والتي ستكون إن نجحت بمنزلة الخطوة الأهم لمحاسبة نظام الأسد.
في 3 من تشرين الأول الحالي، انعقدت في قصر الأمم المتحدة بجنيف جلسة نقاش على هامش الدورة الـ57 لمجلس حقوق الإنسان، تناولت إمكانية إحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
نظمت الجلسة منظمة “المنتدى السوري“، برعاية الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، إذ جرى التركيز على الجوانب القانونية التي يمكن من خلالها إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، استنادًا إلى دراسة أعدها “المنتدى” ومؤسسة “Legal Action Worldwid”، وهي منظمة مستقلة تنشط في عدد من الدول، وتضم مجموعة من المحامين ورجال القانون المتخصصين في مجال حقوق الإنسان، الذين يعملون في المناطق الهشة والمتضررة من الصراعات.
منظمات حقوقية السورية قامت خلال الأشهر الماضية بإجراء ثمانية لقاءات من نيويورك إلى لاهاي وصولًا إلى جنيف، بغية العمل على حشد حكومات الدول من أجل التحرك لمحاسبة الأسد من بوابة محكمة الجنايات الدولية.
عقبات نحو “الجنائية الدولية”
لم تنجح المحاولات لإحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى الآن، بسبب وجود عدة معوقات تحدث عنها المحامي المختص بالقانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني، في حديث ل.
أبرز المعوقات كانت أن سوريا لم توقع على ميثاق روما الأساسي، وهو الاتفاق المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، وبالتالي فإن المحكمة ليست لديها ولاية قضائية تلقائية على الجرائم المرتكبة في سوريا، فالمحكمة تحتاج إلى أن تكون الدولة المعنية طرفًا في ميثاق روما، أو أن تحال القضية إليها من قبل مجلس الأمن الدولي حتى تستطيع التحرك قضائيًا ضد نظام الأسد.
وأشار الكيلاني إلى أن “الفيتو” في مجلس الأمن تسبب كذلك في عرقلة إحالة الملف للجنائية الدولية، إذ إن روسيا والصين، وهما دولتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن، استخدمتا حق النقض (الفيتو) لمنع إحالة الملف السوري إلى المحكمة.
وأضاف الكيلاني أن الصراع في سوريا معقد للغاية بسبب تعدد الأطراف المنخرطة فيه، بما في ذلك قوى دولية وإقليمية، ما يجعل اتخاذ قرار بإحالة الملف للجنائية الدولية أكثر تعقيدًا، فالعديد من الدول تخشى من تأثير المحاسبة القانونية لنظام الأسد على مصالحها في سوريا، وبالتالي حدوث خلل في التوازنات الجيوسياسية.
كما أن هناك أيضًا مخاوف من أن تكون أي عملية محاسبة للنظام السوري أمام محكمة الجنايات الدولية معقدة وطويلة، وقد تؤدي إلى زيادة التوترات في المنطقة، فبعض الدول تعتبر أن فتح تحقيق دولي قد يعرقل أي جهود لحل النزاع سياسيًا أو عبر المفاوضات، وفق الكيلاني.
“ميانمار مخرج قانوني”
خلال الجلسة التي عُقدت بجنيف، في تشرين الأول الحالي، جرت مناقشة سبل إحالة ملف سوريا لمحكمة الجنايات الدولية، حيث اقترح المشاركون الاستفادة من قضية ميانمار التي أحيلت قضيتها لمحكمة الجنايات الدولية، بسبب قيامها بالتهجير القسري لمسلمي الروهينغا إلى بنغلاديش.
في 25 من آب 2017، شنت القوات المسلحة في ميانمار حملة عسكرية وارتكبت مجازر ضد الروهينغا في أراكان (غربي البلاد)، ما أسفر حينها عن مقتل آلاف الروهينغيين، فضلًا عن لجوء نحو مليون إلى بنغلاديش، وفق الأمم المتحدة.
حكومة ميانمار تعتبر مسلمي الروهينغا “مهاجرين غير نظاميين” من بنغلاديش، بينما تصنفهم الأمم المتحدة “الأقلية الأكثر اضطهادًا في العالم”.
وفي هذا السياق، قال كبير مستشاري المناصرة في “المنتدى السوري”، داني البعاج، إن ميانمار كدولة هي مثل سوريا، ليست طرفًا بمحكمة الجنايات الدولية، وبالتالي فإن الأخيرة ليست لها الصلاحية في أن تحقق بالانتهاكات التي ارتكبتها ميانمار، ولكن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، استغل فكرة أن بنغلاديش التي هُجّر مسلمو الروهينغا إليها هي عضو في محكمة الجنايات، وهو ما أتاح له في عام 2018 تحريك دعوى قضائية لمحاسبة ميانمار على التهجير القسري، باعتبارها جزءًا لجريمة اكتمل ارتكابها على أراضي بنغلاديش.
كما وجدت المحكمة حينها أنه بما أن الروهينغا اضطروا بشكل غير قانوني إلى البقاء خارج بلدهم، والعيش في ظروف مأساوية في بنغلاديش، فإنه للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على الجريمة التي ارتُكبت ضد الروهينغا من قبيل الاضطهاد أو “الأعمال اللاإنسانية الأخرى”، التي قالت إنها تشكل حرمانًا شديدًا من الحقوق الإنسانية.
وأضاف البعاج ل، أن قضية ميانمار مشابهة تمامًا لما يحصل في سوريا، فالأخيرة قامت بجريمة التهجير القسري من سوريا إلى الأردن التي هي طرف في محكمة الجنايات الدولية، “لذا نعمل حاليًا على الحشد الدولي بغية دفع المحكمة الجنائية للمباشرة بالتحقيق في الانتهاكات التي حصلت في سوريا أسوة بما فعلته مع ميانمار، التي قد تكون قضيتها بمنزلة مخرج قانوني لإحالة الملف السوري للجنايات الدولية”.
ثلاثة سيناريوهات للمحاسبة
وعن آلية الإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية، يرى داني البعاج أن هناك ثلاثة احتمالات، الأول، أن يقوم المدعي العام نفسه بطلب التحقيق والمحاسبة، كما حصل في قضية ميانمار وبنغلاديش.
السيناريو الثاني أن تقوم منظمات المجتمع المدني أو المنظمات الحقوقية السورية برفع شكوى للمحكمة الجنائية الدولية ضد نظام الأسد، وفق بند المادة 15 من نظام روما الأساسي.
ولفت البعاج إلى أن هذا السيناريو غير مجدٍ، لأن محكمة الجنايات الدولية تقول إنه ترد إليها شكاوى كثيرة من المنظمات الحقوقية، ولكن ليس لديها الوقت لمتابعتها، إضافة إلى أنها غير ملزمة قانونيًا بالنظر فيها.
أما السيناريو الثالث للوصول إلى محاسبة الأسد، فهو أن تقوم دولة طرف بمحكمة الجنايات بالإحالة، وفق المادة 14 من نظام روما الأساسي، وهو ما حصل مؤخرًا بأن قامت أستونيا بتقديم إحالة لمحكمة الجنايات الدولية على بيلاروسيا ورئيسها، واستخدمت المادة 14 في هذه الحالة.
وأكد البعاج أن المنظمات الحقوقية تحشد للعمل على السيناريو الثالث، بغية دفع المحكمة الجنائية لتحريك ملف محاسبة الأسد، بحكم أن النظام السوري هجّر جزءًا من السوريين إلى الأردن، التي هي طرف في ميثاق روما، على غرار قضية ميانمار، علمًا أن بنغلاديش لم تطلب ذلك من المحكمة الجنائية الدولية، بل إن الأخيرة هي التي تحرّكت بأمر من المدعي العام.
في أيلول 2024، أصدر المجلس الأطلسي تقريرًا قال فيه، إنه خلال السنوات الخمس الماضية، قُدّمت للمحكمة الجنائية الدولية أربع مذكرات على الأقل من الضحايا السوريين الذين جرى ترحيلهم إلى الأردن، حيث قدموا تلك المذكرات بالتعاون مع محاميهم ومنظمات غير حكومية مثل “المركز القانوني في جميع أنحاء العالم” (LAW)، مطالبين بفتح تحقيق ضد الأسد.
وأشار المجلس الأطلسي إلى أن المحكمة الجنائية لم تتخذ بعد أي قرار بشأن هذه المذكرات، وبموجب المادة 15 من نظام روما الأساسي، يتمتع المدعي العام بسلطة تقديرية في اتخاذ القرار حول فتح التحقيق من عدمه، من دون وجود أي إطار زمني يلزمه بالرد أو اتخاذ أي إجراء.
وفي ظل صعوبة الوصول إلى السيناريوهات السابقة مع غياب الإرادة الدولية لمحاسبة الأسد، يرى المعتصم الكيلاني، أنه يمكن اللجوء إلى آليات بديلة للمحاسبة، مثل إنشاء محاكم خاصة أو لجان تحقيق دولية تعمل بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، والمثال على ذلك الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي أنشأتها الأمم المتحدة لجمع الأدلة حول الجرائم المرتكبة في سوريا.
ولفت الكيلاني إلى أنه يمكن للحكومة السورية المستقبلية، في حال حدوث تغيير سياسي كبير في سوريا، أن تطلب إحالة مسؤولي النظام السوري وعلى رأسهم بشار الأسد إلى المحكمة.
بانتظار قرار سياسي
منذ عام 2012، كانت هناك محاولات جدية لإحالة الملف السوري للجنائية الدولية، مع ظهور مؤشرات لحدوث حالات قمع وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من قبل النظام السوري، ترقى بعضها لجرائم ضد الإنسانية.
في 22 من أيار 2014، كانت هناك جلسة في مجلس الأمن لإحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية، بغية محاسبة النظام السوري على جرائمه، لكن “الفيتو” الروسي- الصيني عرقل تلك الإحالة.
وحول الجهود التي تعمل عليها المنظمات الحقوقية لإحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية، قال داني البعاج، إنه يجري العمل على ذلك منذ بداية العام ضمن نطاق المناصرة والحشد الدولي، حيث “تجاوزنا المرحلة الأولى التي تضمنت الإجابة عن جميع الأسئلة القانونية المرتبطة بموضوع الإحالة، والآن نعمل ضمن المرحلة الثانية على محاولة الإجابة عن الأسئلة السياسية”.
وأضاف البعاج أن “المنتدى السوري” وغيره من المنظمات الحقوقية السورية، تركز عملها على دفع الدول الأطراف في ميثاق روما إلى أن تقوم بلفت نظر المدعي العام إلى أن هناك جرائم يرتكبها النظام السوري، تقع داخل اختصاص المحكمة ويجب التحقيق فيها، وهذا يستدعي بالتأكيد قرارًا سياسيًا تتخذه حكومات تلك الدول.
وأشار البعاج إلى أن التطورات الحالية في المنطقة تعكس نوعًا من الجدّية السياسية نحو محاسبة “المجرمين”، حيث طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية استصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، إضافة إلى عدد من قادة “حماس”، وبالتالي هناك فرصة مناسبة لأن تُستكمل العدالة في المنطقة، ويحاسب كل “المجرمين” بمن فيهم بشار الأسد، مشيرًا إلى أن الأمر الذي ثبت أن المحكمة الجنائية طرف غير منحاز، وهي جهة معنية بالجرم ومرتكبه.
كانت 108 دول وقعت عام 1998 على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، وهناك العديد من الدول لم توقع على المعاهدة بما فيها سوريا والعراق، وبالتالي لا تتدخل المحكمة في قضايا على الأراضي السورية، بينما تستطيع تلقائيًا ممارسة سلطة قضائية على الجرائم المرتكبة في أراضي أي دولة عضو أو المرتكبة من أشخاص ينتمون لأي دولة عضو.
ووفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن النظام السوري مسؤول عن قتل أكثر من 200 ألف شخص، بينهم 23 ألف طفلًا، إضافة إلى اعتقال أكثر من 136 ألف مدني، منذ عام 2011.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي