مستقبل العلاقات السورية الروسية.. “ملفات شائكة”
لم يمر لقاء نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف مع الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع والذي بحث آفاق العلاقة بين البلدين بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بشكل عادي أمام أعين المسؤولين ووسائل الإعلام الغربية التي صبت تركيزها على ملف طلب تسليم بشار الأسد، بل أثار تساؤلات عن أبرز الملفات المطروحة على الطاولة وما إذا كان للقواعد العسكرية في سوريا النصيب الأكبر من هذه المباحثات.
وفي الواقع، يبدو أن اللقاء الذي جرى، الثلاثاء الماضي، طرح بشكل غير مباشر ملف تسليم الأسد، عبر تطرق الإدارة السورية الجديدة لمسألة “دور روسيا المنتظر في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري من خلال تدابير ملموسة مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي”.
وهذه العبارة التي وردت في البيان السوري الرسمي، مع أهميتها، تلتها عبارة أكثر وضوحاً تحدثت عن مناقشة “آليات العدالة الانتقالية التي تهدف إلى ضمان المساءلة، وتحقيق العدالة لضحايا الحرب الوحشية التي شنها نظام الأسد”.
وبهذا المعنى، فإن وجهة النظر السورية شددت على أنه لـ”استعادة العلاقات يجب أن تعالج أخطاء الماضي”، و”تحترم إرادة الشعب السوري وتخدم مصالحه”، ولكن هذا الموضوع، لم يكن العنصر الوحيد المطروح على الطاولة، ولم يعكس تماماً طيف الملفات التي نوقشت خلال المفاوضات الشاقة التي استمرت قرابة 3 ساعات.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن اللقاء الرسمي الأول لمسؤول روسي مع القيادة الجديدة في دمشق، سبقته جولات حوار متعددة جرت خلف أبواب مغلقة على مستوى القنوات الدبلوماسية والعسكرية، وبوساطة في حالات عدة من جانب أوساط إقليمية وازنة.
بمعنى أن القضايا الخلافية لم تظهر فجأة خلال الحوار، بل لأن بيانات الطرفين التي تلته عكست منطلقات كل طرف، والجوانب التي يسعى للتركيز عليها في الشق العلني من الحوار.
وتظهر الفروقات بين الأولويات التي ركز عليها الجانبان أن المحادثات كانت صعبة للغاية، وتطرقت إلى ملفات شائكة لا يمكن الحديث عن تقارب سريع لوجهات النظر حولها، وأنها تحتاج بالفعل إلى عمل واسع وجولات حوار عدة.
لكن، بهذا المعنى يمكن القول إن الزيارة حققت أهدافها بالفعل، إذ تم كسر الجليد وفتح المجال لحوار مقبل، فيما تبدو موسكو مستعدة لاستقبال وفود حكومية سورية لمواصلة العمل على الأجندة المطروحة من وجهة نظر الجانبين.
الحوار تطرق إلى 3 ملفات أساسية تم تناولها من وجهات نظر متباينة:
- الوجود العسكري الروسي في سوريا، والسيناريوهات المحتملة له في المستقبل.
- آفاق التعامل مع الأسد ورفاقه الذين يحظون حالياً بحماية روسية.
- مستقبل العلاقات الثنائية على خلفية استحواذ شركات روسية كبرى على عقود مجزية في عهد الأسد، وانطلاقاً من الدور الذي يمكن أن تقوم به موسكو للمساهمة في إعادة الإعمار، والمساعدة في تطوير بعض البنى التحتية السورية.
واعتبر الكرملين الزيارة الأولى للوفد الروسي الرسمي إلى دمشق بأنها “مهمة”، كما وصفتها وزارة الخارجية بـ”البناءة”.
وفي الوقت نفسه، أبدى الجانبان تحفظاً شديداً بشأن الموضوع الرئيسي للمفاوضات، وهو مصير القواعد الروسية في سوريا، إذ يبدو هذا هو التحدي الأكبر حالياً، والأهم حتى من موضوع مصير الأسد.
وقال خبير مجلس الشؤون الدولية الروسي أنطون مارداسوف، إن ملف القواعد “مرتبط ليس فقط بمشيئة دمشق، وموسكو، بل برزمة من المتغيرات الإقليمية والدولية حول سوريا”.
وتغيرت الخلفية المعلوماتية المحيطة بالمنشآت الروسية في سوريا أكثر من مرة منذ سقوط نظام الأسد، فبعد أيام قليلة من سقوط الأسد في 8 ديسمبر الماضي، أشارت مصادر غربية، إلى أن موسكو تواصلت بشكل سريع مع الإدارة السورية الجديدة، وكانت قريبة من الاتفاق على احتفاظ روسيا بالقاعدة البحرية في طرطوس، وقاعدة حميميم الجوية بالقرب من مدينة اللاذقية الساحلية، وسط ظهور مؤشرات بوجود “أجواء إيجابية” بين الجانبين.
لكن سرعان ما تغير الموقف بعد مرور أسابيع قليلة، خصوصاً مع تواتر معطيات عن ضلوع القواعد الروسية في “تسهيل فرار” مئات من ضباط نظام الأسد، ما دفع الإدارة السورية الجديدة لوقف الحوار، وتسيير دوريات قرب القواعد، واتخاذ قرارات حاسمة من بينها منع دخول بعض سفن الشحن الروسية إلى ميناء طرطوس.
وكان لافتاً أن وكالة “بلومبرغ” قالت في تقرير، إن الحوار الروسي-السوري بشأن مستقبل المنشآت العسكرية وصل لـ”طريق مسدود” بالتزامن مع بدء الزيارة المرتقبة منذ أسابيع، وبالتحديد حينما كان موكب الوفد الروسي قد خرج للتو من الطائرة، ويستعد للتوجه إلى قصر الشعب، ما عكس مستوى الحضور الغربي غير المباشر على طاولة المفاوضات.
وذكرت أوساط في موسكو، أن هذا أحد المؤشرات إلى أسباب تشدد لهجة الشرع، وانتقاله من الحديث عن “علاقات تاريخية”، وضرورة المحافظة على التعاون مع روسيا، إلى التشديد فجأة بضرورة اعتراف موسكو “بأخطاء الماضي”، و”استعادة الثقة”.
كما أشار الشرع، لـ”تدابير ملموسة مثل التعويض، وإعادة الإعمار والترميم”، فضلاً عن الحديث عن تسليم الأسد، وهو أمر لا تستطيع موسكو أن تفعله لأسباب واضحة تتعلق بصورتها.
ومن وجهة النظر الروسية، فإن هذا التحول يعكس تريث السلطات السورية في ملف العلاقة مع موسكو، بهدف تعزيز أوراقها التفاوضية مع الغرب.
وترى المستشرقة وخبيرة العلوم السياسية يوليا روكنيفارد لموقع “ذا إنسايدر”، أن “الحكومة السورية الجديدة مهتمة برفع العقوبات الغربية أكثر من التعاون مع موسكو”، مشيرةً إلى أن “المطالب المطروحة بشكل عام هو التعويضات، والأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا، تبدو أبرز وأكثر أهمية من موضوع تسليم الأسد”.
سيناريوهات الوجود العسكري
ترى موسكو، أن الحكومات الغربية مثل فرنسا وألمانيا التي زار وزيرا خارجيتها سوريا بعد الإطاحة بالأسد، ستعمل على استعادة العلاقات ورفع العقوبات في حال أظهرت الإدارة الجديدة توجهاً مؤيداً للغرب والذي يتطلب على الأقل تجميد قضية القواعد الروسية، وربما حتى رفض السماح لموسكو بتنفيذ اتفاقية الإيجار لمدة 49 عاماً التي أبرمتها مع حكومة الأسد عام 2017.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً رغبة الشرع في إرضاء ذلك الجزء من المجتمع السوري الذي يلقي باللوم على روسيا في مساعدة الأسد على البقاء في السلطة.
في المقابل، تبدو موسكو مستعدة لكل الاحتمالات ومنها إمكانية الانسحاب نهائياً من سوريا، فيما لا يخفى أنها شرعت في نقل جزء من معداتها في البحر الأبيض المتوسط إلى أماكن أخرى، مثل ليبيا، وهو ما يتضح من صور الأقمار الصناعية، وحركة سفن الشحن الروسية التابعة للمؤسسات الخاضعة لسيطرة وزارة الدفاع الروسية.
ومن الواضح أن وضع القواعد الروسية قد تغير، بما في ذلك على صعيد الأهمية الاستراتيجية للوجود العسكري في سوريا، فوفقاً لخبراء عسكريين، تخضع المنشأتان العسكريتان الروسيتان الأهم للسيطرة النارية من ارتفاعات عالية، وهما عرضة للتخريب.
لكن في المقابل، فإن الحفاظ عليهما ولو مرحلياً سيكون نجاحاً بالنسبة لموسكو، سواء من الناحية الصورية الدبلوماسية، أو من الناحية العملية البحتة.
وفي حال وافقت دمشق على المقترح الروسي بتحويل القواعد لمواقع لدعم العمليات اللوجستية بما في ذلك على صعيد تسهيل نقل الإمدادات الإنسانية إلى سوريا، فإن هذا سيحل لموسكو مشكلة الرحلات الجوية المباشرة لطائرات النقل إلى إفريقيا، وسوف يمنحها القدرة على دعم تحركات سفنها في المياه الدافئة.
خيارات روسيا المحتملة لمستقبل الوجود العسكري في سوريا:
- التوافق على تمديد العمل باتفاقيات تنظيم الوجود العسكري، مع إضافة تقليص المدة الزمنية له، بمعنى أن يتم استبدال اتفاقيتي الوجود “من دون سقف زمني” في حميميم، ولمدة 49 سنة في طرطوس، إلى اتفاقية تنظم الانسحاب الروسي التدريجي في فترة 5 سنوات أو 10 سنوات مثلاً.
وهذا السيناريو من شأنه أن يلبي الأغراض الروسية المرحلية، وبنفس الوقت يمنح الإدارة السورية هامشاً للمناورة مع الغرب، وربما يضاف هنا تعويضات مالية عن إيجار المنشآت مثلاً. - إنهاء الوجود الروسي بالقاعدة الجوية في حميميم نهائياً خلال فترة زمنية قصيرة، في مقابل العودة إلى اتفاق العام 1972 الذي منح الاتحاد السوفياتي حينها الحق في استخدام المركز اللوجستي في طرطوس، ربما مع إضافة تحديثات على الاتفاقية السابقة تضمن مدة زمنية وتعويضات مالية.
- اضطرار موسكو إلى الانسحاب في مهل زمنية أقصر من القاعدتين، واستبدال الاتفاقيتين باتفاقيات جديدة تنظم عملية الاستخدام المتبادل للموانئ البحرية والجوية لدى الطرفين أسوة باتفاقات مماثلة أبرمتها روسيا مع دول كثيرة في المنطقة وخارجها.
يأتي هذا وسط احتمالات بأن تظهر آليات جديدة مبتكرة تقوم على إيجاد توازن دقيق يحافظ على الوجود الروسي، مقابل عدم إثارة ردود فعل عقابية من جانب الغرب.
ويرى خبراء، أن الحفاظ على المنشآت العسكرية الروسية وفقاً لأي سيناريو، سيظل يعتمد على “ذوبان الجليد” في علاقات دمشق مع الدول الغربية المهتمة بتعطيل أي نشاط لموسكو في الشرق الأوسط وإفريقيا.
ويأتي هذا انطلاقاً من أنه حتى الآن، يتقدم التقارب بين الإدارة السورية والدول الغربية ببطء شديد، لذا فمن غير المرجح أن تصر دمشق في المستقبل القريب على إغلاق القواعد الروسية بالكامل.
الأسد ورقة تفاوضية
لا يكاد أحد في روسيا يختلف مع قناعة أن تسليم الأسد إلى الإدارة السورية الجديدة أمر بعيد الاحتمال، ولن يتحدث أي طرف روسي بجدية في هذا المطلب، كما أن هذا الأمر لا يزيد عن كونه ورقة تفاوضية طرحتها دمشق في إطار رفع سقف التوقعات بشأن التعويضات أو الإسهامات الروسية المحتملة في ملف إعادة إعمار بعض البنى التحتية مثل محطات توليد الطاقة الكهربائية أو السدود وغيرها، وهي منشآت بناها الاتحاد السوفياتي أصلاً في سوريا، ولدى روسيا خبرة كبيرة فيها.
في المقابل، فإن السلطات الروسية قادرة على تقديم ضمانات محددة بأن الأسد لن يمارس أي دور تخريبي من موسكو تجاه سوريا الجديدة، وفضلاً عن ذلك فإن موسكو لن تسلم الأسد إلى أي جهة دولية جنائية، وخصوصاً المحكمة الجنائية الدولية التي هي أصلاً ليست عضواً فيها، وتنتقد باستمرار نشاطها وتعتبره مسيساً.
وفيما يتعلق بالأموال اللازمة لإعادة الإعمار والتعويضات، فإن فرص الحصول عليها من موسكو ضئيلة للغاية، لكن هذا لا يعني أن الشركات الروسية لن تكون قادرة على لعب دور في إعادة تأهيل بعض البنى التحتية التي تحتاجها سوريا بقوة حالياً، لكن هذا الأمر يبدو مرتبطاً أكثر بفتح ملف الشركات الروسية التي استحوذت في فترة سابقة على قطاعات مهمة في البلاد.
التراجع عن العقود الاستراتيجية
في عهد الأسد، أبرمت روسيا وسوريا عدداً كبيراً من الاتفاقيات في عدة مجالات، وهي لا تتعلق بالتعاون العسكري فقط، بل تشمل أيضاً على سبيل المثال، تصدير الحبوب المتوقف حالياً أو وضع اللغة الروسية، والتي تم إدخالها إلى المدارس المحلية كلغة أجنبية ثانية.
ومن المستحيل مراجعة مثل هذه الاتفاقيات خلال فترة قصيرة من الزمن، خصوصاً أن الطرفين يرغبان في تجنب الانفصال الفاضح، والحفاظ على مظهر العلاقة على الأقل.
ومع ذلك، لا ينطبق هذا على الاتفاقيات مع الهياكل التجارية، فقبل أسبوع من زيارة الوفد الروسي، أنهت سوريا اتفاقية استثمار مرفأ طرطوس المدني مع شركة “ستروي ترانس غاز”، ووصف بوجدانوف هذه الخطوة بأنها “مسألة فنية بحتة”.
وفي الواقع، لم تخرق دمشق العقد مع الهيكل التجاري الروسي، الذي ماطل طويلاً في تنفيذ التزاماته بموجب العقد المبرم في العام 2019. وكان ذلك العقد يلزم الشركة بضخ نصف مليار دولار لتطوير البنى التحتية للمرفأ وهو أمر لم يحدث، وعندما تسلمت السلطات الجديدة الموقع قالت، إن البنى التحتية “على حالها، ولم تخضع لأي عمليات تشييد أو إصلاح”.
وهناك أسباب عديدة لهذه المماطلة بينها أن هذه الشركة أصلاً كانت تستخدم لإدارة أموال بشار الأسد عبر مجموعة شركات “قاطرجي” التي تمتلك نصف أسهم “ستروي ترانس غاز”.
وهذه المجموعة التي قتل رئيسها محمد براء قاطرجي في غارة إسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية منتصف العام الماضي، مُتهمة بأنها كانت تدير في الخفاء استثمارات واسعة لعائلة الأسد، لذلك فإن العقد كان جزءاً من الفساد المستشري أصلاً في سوريا في العهد السابق.
وقد ينسحب ذلك على عقود كبرى أبرمتها شركات روسية في سوريا، مثل عقد استثمار قطاع الفوسفات، وعقود ضخمة للغاية في قطاعي النفط والغاز والتنقيب في البادية السورية لمدة نصف قرن، لكن مراجعة كل تلك العقود لا تعني مباشرة وجود مغزى سياسي في “معاقبة الشركات الروسية” لأن غالبية تلك العقود لم تنفذ أصلاً.
وفي المجمل تخضع كل العلاقة بين موسكو ودمشق لمراجعة شاملة حالياً، وأن كانت خطواتها لا تبدو متسارعة.
وإذا كانت زيارة بوجدانوف قد فتحت باب الحوار وكسرت الجليد بين الطرفين، فإنها مجرد جولة أولى “استكشافية” فقط، ينتظر أن تليها جولات من الحوار الشائك والمليء بالصعوبات.