– أمير حقوق

في 8 من كانون الأول 2024، شهدت سوريا تحولًا تاريخيًا، إثر انهيار حكم آل الأسد وفتح صفحة انتقالية جديدة، ومع هذا التحول السياسي جاء السؤال: ماذا عن الثقافة؟

بين الركام والدمار والنزوح والخوف، هل يمكن للسينما أن تعود، وللمسرح أن ينبض، وللمكتبة أن تُفتح؟

ومع مرور الأشهر الأولى، ورغم أن الانفتاح السياسي فتح نافذة لإعادة بناء القطاعات الثقافية، فإن الواقع يكشف عن تراجع في بعض القطاعات الثقافية وتحسن بعضها الآخر، مع غياب سياسات ثقافية واضحة، ودعم حكومي محدود، وشراكات شبه معدومة مع صناع الثقافة.

هذا التقرير البانورامي، يستعرض أهم التطورات في مختلف قطاعات المشهد الثقافي منذ سقوط النظام، من المسرح والسينما إلى الدراما والموسيقا والفنون التشكيلية، مرورًا بالأدب، مسلطًا الضوء على التحديات التي واجهتها هذه القطاعات، والفرص التي أتاحتها لحظة التحول، والأفق الذي يمكن أن يُفتح أمام سوريا وهي تحاول استعادة صوتها الثقافي بعد سنوات من الصمت والقمع.

مسرح ينتعش وسينما بلا حراك

دخلت الساحة الثقافية مرحلة جديدة تتأرجح بين الفرص والتحديات، فبينما عاد المسرح ليشهد حراكًا ملحوظًا في الفترة الأخيرة، بعد أشهر من التوقف والنشاط الفردي الضئيل، لا يزال المشهد السينمائي غارقًا في حالة من الضعف والجمود، رغم المناخ السياسي الأكثر انفتاحًا.

بدت الفترة الأولى بعد سقوط النظام محبطة للمسرح وصنّاعه، إذ اقتصرت الأشهر الأولى على عرضين مسرحيين للأخوين ملص والفنان نوار بلبل، وفي الموسم الصيفي شهدت المسارح من دمشق، كـ”الحمراء” و”القباني” ومسرح “الأوبرا”، إلى بقية مسارح المراكز الثقافية في المحافظات السورية، نشاطًا ملحوظًا، كخطوة أعادت الأمل برسم بدايات “عودة مسرحية”.

وتنوعت العروض المسرحية بين الثورية والوطنية، والاجتماعية والفلسفية والتاريخية، بالإضافة إلى مواضيع الذات البشرية.

يرى الأخوان ملص، في حديثه إلى، أن الحراك المسرحي مقبول، لكنه يشوبه خلل في التوجه، إذ يلاحظان انحيازًا للمضامين الثورية على حساب الاستثمار في الكفاءات الفنية، ما يعوق إنتاج أعمال قادرة على الاستمرار والتأثير، ويؤكدان أن النهوض بالمسرح يتطلب دعم الطاقات الشابة، وتقبّل النقد باعتباره جزءًا من عملية التطوير.

أما المخرج المسرحي زين طيار فيعتبر أن ما يجري اليوم ليس “حركة مسرحية حقيقية”، بل جهود فردية لإبقاء هذا الفن حيًّا، مشيرًا إلى أن التراجع بدأ قبل الثورة بسنوات، وتفاقم لاحقًا مع انقطاع المهرجانات وتدهور البنى التحتية للمسارح.

وقال خلال حوار مع، إن العروض لا تزال تُنتج في ظروف بدائية، وفي ظل غياب شبه تام للتمويل، ما يحوّل العمل المسرحي إلى “جهد تطوعي” لا يضمن الاستمرارية.

الممثلان المسرحيان جهاد بكر ونمر نبهان خلال مسرحية وداعًا يا شقيقي - 12 تشرين الأول 2025 ()

الممثلان المسرحيان جهاد بكر ونمر نبهان خلال مسرحية وداعًا يا شقيقي – 12 تشرين الأول 2025 ()

وزارة الثقافة.. رقابة قائمة وحوار غائب

وصف الأخوان ملص دور وزارة الثقافة بأنه متذبذب وغير قادر على تلبية متطلبات المرحلة، فالدعم المالي ضعيف، والموافقات الرقابية بطيئة، والمسؤولون، بحسب شهادتهما، لا يتقبلون النقد، ما يخلق فجوة بين المؤسسات الرسمية وصنّاع المسرح.

ويرى المخرج المسرحي زين طيار أن الرقابة لم تختفِ بعد سقوط النظام، بل تغيّر شكلها فقط، فبقيت بعض المواضيع محظورة، ما يتنافى مع جوهر العمل الفني.

ويجمع الفنانون على ضرورة فتح حوار مباشر بين الوزارة وأهل المسرح، لوضع خطط تنظم القطاع وتعيد إليه مكانته، مؤكدين أن أي نهوض ثقافي لن يتحقق دون إرادة رسمية واضحة، واستثمار حقيقي في الإنتاج، مع وجود دعم يدعم المسرح وصنّاعه.

 

المسرحيون يواجهون صعوبة مع وزارة الثقافة، عبر ضعف الدعم المالي أو بطء الموافقات الرقابية على النصوص المسرحية، كما أن بعض المسؤولين في المؤسسات الثقافية يرفضون النقد.

الأخوان ملص 
فنانان مسرحيان

 

السينما شبه متوقفة

يظهر القطاع السينمائي في حالة شبه متوقفة، فباستثناء أعمال عربية وثّقت انتهاكات النظام السابق خلال سنوات الثورة السورية، يغيب الإنتاج السينمائي السوري المحلي تمامًا، ويشير العاملون في المجال إلى أن التراجع ازداد بعد سقوط النظام بدل أن ينحسر، نتيجة غياب البنى الإنتاجية، والدعم الحكومي، والتمويل المستقل.

واقتصرت الفعاليات السينمائية في سوريا على “تظاهرة أفلام الثورة السورية”، منتصف أيلول الماضي، التي اعتبر مدير المؤسسة العامة للسينما، جهاد عبده، خلال حديث إلى، أنها ليست مجرد عروض لأفلام يشاهدها الجمهور السوري لأول مرة، بل هي مرآة صادقة لحرب شُنت على شعب أعزل، ورحلة تهجير طويلة.

وتوقع أنها ستكون حافزًا للسينمائيين الموجودين داخل سوريا أو خارجها، لتقديم مشاريع وعودة السينما السورية وانطلاقها للعالم، كاشفًا أن المؤسسة شكّلت لجنة لترشيح الفيلم السوري لسباق “أوسكار” لأول مرة بتاريخ سوريا.

يرى المخرج السينمائي رامي نضال، أن المشهد السينمائي في سوريا يمر بمرحلة جمود واضح، إذ لم تظهر حتى الآن أي نتائج ملموسة للعملية السينمائية بعد التغيرات السياسية الأخيرة.

ويؤكد أن تطوير السينما لا يمكن أن يتم دون إشراك القطاع الخاص إلى جانب المؤسسة الرسمية، سواء في السينما أو المسرح أو بقية الفنون التشكيلية والأدبية.

ويعبّر نضال عن خشيته من أن تؤدي المؤشرات الحالية إلى تراجع أكبر بدل التقدم، خاصة مع غياب رؤية جديدة داخل وزارة الثقافة واستمرار النهج التقليدي ذاته.

 

المعوقات التي تقف أمام الإنتاج السينمائي لا تزال ذاتها منذ عهد النظام السابق، وهي البيروقراطية، وغياب التعددية في المؤسسات السينمائية، وحصر المشهد بجهة رسمية واحدة.

رامي نضال  
مخرج سينمائي

 

الدراما تتأقلم وتترقب

تبدو الساحة الدرامية واحدة من أسرع القطاعات استجابة للتغيير، فالمشهد الذي عاش لأكثر من عقد تحت ثقل الرقابة الأمنية والتوجيه السياسي، وجد نفسه اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء هوية درامية طالما حوصرت، رغم أنها شكّلت أحد أبرز وجوه الثقافة السورية عربيًا.

وعلى الرغم من التحديات التي رافقت مرحلة الانتقال السياسي، لم يغب الحضور الدرامي السوري عن الموسم الرمضاني الماضي، فقد استمرت عدة شركات بإنتاج أعمالها التي عُرضت، وتنوعت بين الدراما الاجتماعية والكوميدية و”الفانتازيا” وأعمال البيئة الشامية، بينما اضطرت شركات أخرى إلى تأجيل مشاريع جديدة نتيجة ارتباك خطوط الإنتاج في بداية المرحلة الجديدة.

لكن اللافت أن وتيرة العمل لم تتوقف، بل أظهرت قدرة القطاع على التأقلم مع الظروف الجديدة، مدفوعًا برغبة جماعية لإعادة تثبيت حضور الدراما السورية كقوة رئيسة في المشهد العربي.

أثر التحول السياسي على المسلسلات

انطلاقًا من فكرة “الدراما مرآة الواقع”، حاولت بعض المسلسلات السورية في رمضان الماضي (2025) تقديم صورة سقوط النظام السابق عبر “الإفيهات” (تعني المؤثرات ويُقصد بها هنا العبارات ذات التأثير الكوميدي) المتداولة المرتبطة به، الأمر الذي حاز إعجاب الجمهور، كنمط درامي جديد بالدراما السورية.

واختلفت الآراء لدى الأوساط الفنية والنقاد حول أثر التحول السياسي على الأعمال المقدمة، وكيفية انعكاسه على صورة الدراما.

الناقد الفني أنس فرج، قال ل، إن هناك عدة مسلسلات أثّر فيها التحول السياسي الذي طرأ على المشهد السوري، سواء عبر نهايتها أو عبر شكلها الدرامي، ولكن ليس بشكل كافٍ، لأن أغلبية المسلسلات كانت قيد التصوير، أو حاصلة على موافقة الرقابة قبل سقوط النظام، وبالتالي اكتفى صنّاع الدراما ببعض الإسقاطات على صعيد النهايات، أو على صعيد الحلول الدرامية بالحلقات الأخيرة.

أما الناقد الفني جوان ملا، فاعتبر أن من المبكر رصد أثر التحول السياسي على المسلسلات، لأن قسمًا منها صُور قبل سقوط النظام، وقليل من الأعمال استفادت من الحدث ووظفته، لكن لا يمكن رصد تحول سياسي شامل في الأعمال الدرامية التي قُدمت.

مشهد من مسرحية "كل عار وأنتم بخير" - دمشق 28 من أيار 2025 (/ أمير حقوق)مشهد من مسرحية "كل عار وأنتم بخير" - دمشق 28 من أيار 2025 (/ أمير حقوق)

مشهد من مسرحية “كل عار وأنتم بخير” – دمشق 28 من أيار 2025 (/ أمير حقوق)

ما المطلوب من الدراما اليوم؟

يترقب النقاد والمهتمون بالشأن الدرامي النهوض بالمسلسلات المقبلة، ورصدها التحول السياسي وتوظيفه بالشكل الملائم.

الناقد الفني أنس فرج، قال إن المطلوب من المسلسلات المقبلة أن تتحدث عن الفترة السابقة بحرية أعلى، وتكون أقرب للمس الجرح الإنساني، ومقاربة للواقع إلى حد ما.

أما الناقد الفني جوان ملا، فيرى أن من المهم أن ترصد المسلسلات المقبلة الواقع السياسي، وأن تتمتع بالشفافية، وأن ترصد معاناة الجمهور، وتتضمن نقدًا لاذعًا للسلطات في أماكن الخطأ.

الناقد الفني عامر عامر، اقترح تقديم الأعمال الجريئة في الموسم المقبل، لتزيد من قوة الدراما التي تُعد مرآة للواقع السوري، حيث كانت من أكثر الجوانب المؤثرة في الجمهور المحلّي والعربي معًا.

زيادة التطلعات إلى الاستثمار السعودي

توقعات النهوض بالدراما السورية زادت بشدة، بعد لقاء رئيس هيئة الترفيه السعودية، تركي آل الشيخ، نخبة من الفنانين السوريين، في العاصمة السعودية الرياض، في خطوة تهدف إلى إطلاق مرحلة جديدة من التعاون والإنتاج العربي المشترك، في مطلع تشرين الثاني الماضي.

وقال آل الشيخ عبر منصة “إكس“، إنه عقد اجتماعًا استمر ثلاث ساعات، أسفر عن تحضيرات لمفاجآت فنية مقبلة.

واعتبر صنّاع الفن والنقاد، أن الخطوة تشكل قفزة نوعية للدراما السورية، يمكن أن تنقلها إلى واجهة الدراما العربية بعد تراجعها خلال سنوات الثورة، مستفيدة من الدعم المالي السعودي، وتوفير محطات عرض مهمة.

ويمكن توصيف المزاج العام في الوسط الفني بأنه يبدو متفائلًا، فالتحول السياسي الواسع، وعودة عشرات الفنانين والكتاب، وتدفق عروض الإنتاج، خاصة مع الإعلان عن تصوير قرابة 20 مسلسلًا لموسم رمضان المقبل، جميعها عوامل تشير إلى أن الدراما السورية قد تكون أمام ولادة جديدة، لا تعيد أمجاد الماضي فحسب، بل تُنتج محتوى أكثر حرية وجرأة وارتباطًا بالواقع الراهن.

الاستثمار في الدراما، برأي الناقد عامر عامر، يتم من خلال الانفتاح على السوق العربية بتشريع أبواب الإنتاج المحلية والعربية، ومنح التسهيلات لتصوير وإنتاج ما يمكن إنتاجه، وإعادة استقطاب النجوم، والعمل على خلق سوق محلية خطوة خطوة، من خلال وجود شركات إنتاج بمعايير ومواصفات تليق بإنتاج أعمال ضخمة، وبدورها، تنافس العمل العربي أولًا ولاحقًا العمل الدرامي الأجنبي، حيث تعالج بطريق إنسانية تدركها مختلف الثقافات.

وإلى جانب الانفتاح على السوق العربية، يجب العمل أيضًا على منح التراخيص للتلفزيونات المحلية والبث الفضائي لعرض الأعمال المحلية، ليكون لدينا مكان لتصريف الأعمال الدرامية السورية من دون الاتكال على السوق الخارجية فقط، بحسب عامر.

فنانون سوريون يلتقون تركي آل الشيخ في الرياض - 8 تشرين الثاني 2025 (تركي آل الشيخ)فنانون سوريون يلتقون تركي آل الشيخ في الرياض - 8 تشرين الثاني 2025 (تركي آل الشيخ)

فنانون سوريون يلتقون تركي آل الشيخ في الرياض – 8 تشرين الثاني 2025 (تركي آل الشيخ)

الموسيقا.. نشاط يتيم بعد تسعة أشهر

تفاءل الموسيقيون السوريون بعد سقوط النظام السوري بتحسن الواقع الموسيقي في سوريا، إذ ارتفع سقف الحريات، وأزيلت العقوبات التي تعوق عمليات التعاون والتبادل مع الخارج.

ولكن الواقع كان مغايرًا، فالموسيقا كانت غائبة عن المشهد الثقافي ككل في الأشهر التسعة الأولى بعد التحرير، لحين افتتاح الفرقة السورية للموسيقا العربية حفلها الأول منذ سقوط النظام السابق، على مسرح دار “الأوبرا” السورية، في 17 من أيلول الماضي، وبعدها أقامت عدة أمسيات موسيقية، بالتوازي مع أمسيات موسيقية لبعض الفرق الخاصة في الفترة الأخيرة.

قائد الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية وعميد المعهد العالي للموسيقا، عدنان فتح الله، قال إن الحفل يمثل أول فعالية للفرقة الوطنية السورية بعد سقوط للنظام السابق، ويعتبر حدثًا موسيقيًا مهمًا، أسهم بعدة فعاليات وأمسيات لاحقة له.

وتمنى أن تكون الموسيقا حاضرة بقوة في الفترة المقبلة، سواء بالمؤتمرات أو بالمحافل أو المناسبات السورية، لأن الفرقة تقدم ما يليق بسوريا وحضارتها أمام الدول.

بدورها، الفنانة السورية ليندا بيطار، ترى أن توقف دار “الأوبرا” خلال الأشهر الأولى أثر بشكل مباشر في المشهد الموسيقي، معتبرة أن “الأوبرا” واجهة الموسيقا في سوريا، وعندما تغيب “يخفت حضور الفن”.

وأضافت، في حديث إلى، “نتمنى أن تبقى المسارح مفتوحة، وأن تبقى الموسيقا حاضرة لأنها روحنا وحياتنا”.

وتطرقت بيطار إلى غياب الفرقة الوطنية عن فعاليات كبرى، مثل معرض دمشق الدولي، واعتبرت ذلك “مؤلمًا”، قائلة، “مع احترامي لجميع الفرق المشاركة، لكن في مثل هذه الفعاليات الكبيرة لا بد أن تكون الفرقة العربية أو السيمفونية حاضرة، لأنها واجهة البلد وليست محسوبة على أي طرف سياسي، وكونها فرقة أكاديمية”.

 

غياب الفرقة الوطنية عن فعاليات كبرى، مثل معرض دمشق الدولي، مؤلم، لأنها واجهة البلد، وليست محسوبة على أي طرف سياسي.

ليندا بيطار  

فنانة سورية

 

بدوره، يعتقد “المايسترو” عدنان فتح الله، أن الموسيقا السورية اليوم تتطلب استثمار الانفتاح السياسي مع الدول العربية أو تركيا أو الدول الأوروبية، وذلك من خلال توقيع اتفاقيات أو مذكرات تفاهم باستقدام خبراء للتدريس في المعهد العالي للموسيقا، أو ورشات عمل تبادلية، لتعزيز واقع الموسيقا السورية.

وأيضًا يجب استثمار فتح حركتي الاستيراد والتصدير، عبر استيراد آلات موسيقية ومعدات موسيقية حديثة وجديدة، ومن ضمن المطالب أن تكون هناك شركات للإنتاج الموسيقي، أسوة بشركات الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، والتي بدورها توفر فرص عمل للمواهب وللخريجين، لاستثمار هذه الطاقات السورية.

فرقة اوركسترا قصيد وجوى ومبدعون وفريق أجنحة الشام علة خشبة مسرح دار الأوبرا - 18 شباط 2025 (/أنس الخولي)فرقة اوركسترا قصيد وجوى ومبدعون وفريق أجنحة الشام علة خشبة مسرح دار الأوبرا - 18 شباط 2025 (/أنس الخولي)

فرقة اوركسترا قصيد وجوى ومبدعون وفريق أجنحة الشام علة خشبة مسرح دار الأوبرا – 18 شباط 2025 (/أنس الخولي)

الأدب يخطو بحذر

بعد عام على سقوط النظام السابق في سوريا، لا يزال المشهد الأدبي يعيش مرحلة انتقالية تتسم بالتحوط والتشكّل البطيء، إذ لم تشهد سوريا حتى الآن فعاليات ثقافية كبرى قادرة على رسم ملامح واضحة للمرحلة الجديدة، باستثناء خطوات تنظيمية محدودة أبرزها إعادة تشكيل مجلس اتحاد الكتّاب العرب.

تعيين مجلس جديد لاتحاد الكتّاب العرب كان الحدث الأبرز في الحقل الثقافي السوري بعد التغيير السياسي، وقد ترافق مع فصل عدد من الأعضاء الذين عُرفوا بارتباطاتهم الوثيقة بالنظام السابق، مقابل إعادة أعضاء آخرين كانوا قد فُصلوا في سنوات سابقة بسبب مواقفهم المعارضة.

وكذلك إطلاق الدورة الأولى من جائزة “خالد خليفة” للرواية، كفعل وفاء يعيد صوته إلى الأجيال القادمة، الصوت الذي لم يساوم يومًا على الحرية والكرامة والصدق، بالتوازي مع انطلاق مهرجان “أيام البُردة” الدولي في اللاذقية بمشاركة شعراء سوريين وعرب، احتفاء بالمديح النبوي وتعزيز الحياة الثقافية، مع ظهور نشاطات قرائية وشعرية محدودة على شكل أمسيات وندوات صغيرة.

يرى عضو اتحاد الكتّاب العرب والفائز بجائزة “كتارا للرواية العربية” 2023، الروائي محمد تركي الدعفيس، أن الوقت لا يزال مبكرًا للحديث عن تغيّر واضح بحركة النشر والتأليف في سوريا منذ التحرير، مبينًا أن مرور عام واحد لا يكفي لظهور نتائج يمكن الاعتماد عليها في التقييم.

بينما يؤكد الكاتب حسن حميد، في حديث إلى، أن لحظة 8 من كانون الأول 2024، شكّلت نقطة تحول في سوريا، إذ تغيرت معطيات الحياة وتبدل المزاج العام للناس بعدما انزاح الكابوس الثقيل الذي ظل جاثمًا على الصدور لسنوات.

يضع حميد، في مقدمة هذا التحول، عنصرين أساسيين هما الخوف والحرية. وبرأيه، كان لهذا الانفراج أثر مباشر في تنشيط حركة التأليف والنشر، ولا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى مساحة رئيسة للتعبير عن دخول سوريا زمنًا جديدًا خاليًا من الخوف والأسئلة المقيّدة.

ويشير إلى أن مقالات الناس ورسومهم وأغانيهم وكتبهم وأنشطتهم الثقافية، عبّرت سريعًا عن حيوية واضحة في المشهد الإبداعي.

ويرى حميد أن الثقافة في سوريا عانت طويلًا من غياب الحرية عامة وحرية التعبير خاصة، ما انعكس على مصداقية ما يُكتب، خصوصًا في الكتب التي ارتبطت بالمديح والتزييف، ويشبّه تأثير غياب الحرية بانخفاض نسبة الأكسجين، الأمر الذي سمح لمشاهد ثقافية عربية أخرى بأن تتقدم على المشهد السوري.

فضاء أوسع للحرية

يشير عضو اتحاد الكتّاب العرب، الروائي محمد تركي الدعفيس، إلى بعض الإرهاصات التي بدأت تظهر، مستفيدة من اتساع مساحة الحرية، أو من إمكانية استيعاب أصوات كانت مكتومة سابقًا بفعل الأمن والسياسة، ومن أبرز هذه المؤشرات عودة روايات كانت ممنوعة من التداول، ومنها روايته الأولى “الرصاصة تقتل مرتين”.

ويذكر الدعفيس أن روايات أخرى تعود اليوم إلى الأسواق، وأن أعمالًا مثل “السوريون الأعداء” لفواز حداد تتحول إلى أعمال درامية، إضافة إلى إقامة جائزة باسم “خالد خليفة” بحضور واسع، وطرح فعاليات ومسابقات كانت مستبعدة سابقًا، مثل احتفالية “روايات الحرب والسجون”.

كما تسجّل الساحة الثقافية حضورًا لمشاركات جديدة في المهرجانات والندوات والأمسيات وجلسات النقد وحفلات التوقيع، معتبرًا أنها خطوات أولى لرسم المشهد.

الكاتب حسن حميد، يرى ضرورة أن يصل العطاء الثقافي إلى كل الأماكن، من المدن إلى الأرياف، والمدارس والمراكز المعنية بتنمية الثقافة والفنون، بالتعاون مع اتحاد الكتّاب العرب لوضع الخطط التي تعكس حضارة الشعب السوري، ويذكر من بين تلك الخطط معارض الكتب والمهرجانات واستضافة المبدعين العرب والأجانب والاهتمام بالفنون.

“التشكيل” يشكو الإهمال ويعيش الخوف

يشهد الفن التشكيلي في سوريا لحظة مفصلية تعكس التحولات العميقة التي طالت المشهدين السياسي والاجتماعي في السنوات الأخيرة، بينما يراها بعض المهتمين بالشأن الثقافي بوادر مرحلة جديدة قد تحمل فرصًا للتجدد.

يشعر فنانون وتشكيليون ومهتمون بالشأن الثقافي بقلق متزايد من تغيّر ملامح المشهد الفني أو انحسار بعض ركائزه الراسخة، في ظل غموض يخيّم على مستقبل الفنون بسوريا، من حدود حرية التعبير إلى حجم الدعم الرسمي للقطاع الثقافي.

مديرة غاليري “زوايا”، رولا سليمان، قالت ل، إنه منذ سقوط النظام السابق لم يحدث أي لقاء مع وزارة الثقافة للتعرف إلى تطلعات الفنانين التشكيليين وتوضيح خطوط المرحلة الانتقالية.

وأضافت أن الخشية الكبرى تكمن في تغيّر الهوية البصرية والفكرية للفن التشكيلي السوري، فبحسب رأيها، فإن المشهد الفني في سوريا، رغم كل الضغوط السابقة، ظل محافظًا على جوهره، ويمثل تعبيرًا صادقًا عن الفنانين، لكن المرحلة الانتقالية قد تجبر بعضهم على تغيير أساليبهم تحت الضغط أو لتلبية تطلعات المؤسسات الجديدة.

 

منذ سقوط النظام السابق لم يحدث أي لقاء مع وزارة الثقافة للتعرف إلى تطلعات الفنانين التشكيليين.

رولا سليمان

فنانة تشكيلية

بدوره، رئيس مركز “أحمد وليد عزت” للفنون التطبيقية، أنس قطرميز، يقدم قراءة للمشهد التشكيلي في سوريا منذ لحظة التحرير حتى اليوم، موضحًا أن القطاع عاش في الأسابيع الأولى حالة من القلق والترقّب، خصوصًا بعد تأخر تعيين وزير للثقافة في الحكومة الجديدة.

وقال قطرميز، إن الوسط الفني شعر حينها بأن مستقبل المؤسسات الثقافية غير واضح، لكن هذا التخوّف ما لبث أن تراجع، مع صدور قرار حكومي يقضي بعودة جميع الموظفين إلى مواقع عملهم.

وأشار قطرميز إلى أن هذا القرار شكّل نقطة تحوّل في استعادة المؤسسات الثقافية لنشاطها.

وأضاف أن مركز “أحمد وليد عزت”، وهو المؤسسة الوحيدة التابعة لوزارة الثقافة والمتخصصة بالفنون التشكيلية والتطبيقية، يشهد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد طلابه، وهو ما يراه مؤشرًا على رغبة الشباب بالعودة إلى المسارات الفنية بعد سنوات طويلة من الانقطاع.

أما المطالب في المرحلة الحالية، فيلخصها قطرميز بأن أهمها للفنان هو احترامه وتقدير وجوده، وهذا ما نلمسه بالفعل من الحكومة الجديدة، أما المطالب المتعلقة بالتطوير والتمويل والدعم المؤسسي فستطرح بقوة في المستقبل، بعد أن تستقر الأوضاع العامة.

وأكدت مديرة غاليري “زوايا”، رولا سليمان، أهمية وجود دور واضح للقطاع الخاص في دعم الفنانين، سواء من خلال الشراء المباشر أو الاستثمار في مشاريع ثقافية.

ودعت رجال الأعمال للنظر إلى الفن على أنه قطاع منتج، وليس نشاطًا هامشيًا، لافتة إلى ضرورة استثمار المعارض فرصة الانفتاح على الخارج وبناء جسور وعلاقات جديدة مع مؤسسات فنية دولية، لأن العالم بدأ ينظر مجددًا إلى الفن السوري، وهناك اهتمام من السياح والمقتنين الدوليين.

معرض الفن التشكيلي للفنانة شهد الجندي في غاليري "زاوايا" بدمشق-17 حزيران 2025(/كريستينا الشماس)معرض الفن التشكيلي للفنانة شهد الجندي في غاليري "زاوايا" بدمشق-17 حزيران 2025(/كريستينا الشماس)

معرض الفن التشكيلي للفنانة شهد الجندي في غاليري “زاوايا” بدمشق-17 حزيران 2025(/كريستينا الشماس)

المصدر: عنب بلدي

شاركها.