بدأت مجموعات صناعية أوروبية التوجه نحو منظومة آخذة في التشكل في فرنسا، لإنتاج معادن الأرض النادرة، في محاولة لتقليص الاعتماد على إمدادات الصين من هذه المعادن الحيوية لصناعة السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح، وفق صحيفة “فايننشيال تايمز”.

وقالت الصحيفة البريطانية، الاثنين، إن بكين أربكت سلاسل الإمداد الخاصة بالمعادن الحيوية للتحول في مجال الطاقة، وأثارت مخاوف من نقص وشيك في المغناطيسات الدائمة، عندما فرضت قيوداً على تصدير تلك المعادن في أبريل الماضي، رداً على الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

وأدت تلك القيود إلى تراجع صادرات الصين من مغناطيسات الأرض النادرة بنسبة 51% في ذلك الشهر مقارنةً بشهر مارس، ما شكل “تحدياً حاسماً” لصناعة السيارات العالمية، وفقاً لشركة الاستشارات Wood Mackenzie.

وبرزت فرنسا كأبرز لاعب أوروبي في مساعي كسر الاعتماد على الصين، إذ تحتضن أكبر عدد من المشاريع “الاستراتيجية” للمواد الخام الأساسية ضمن مبادرة أوروبية تهدف إلى تعزيز الإمدادات المحلية من بعض المعادن. 

وتشرف فرنسا على 9 من أصل 47 مشروعاً مدرجاً ضمن الخطة، بينها مشروعان يتعلقان بالمعادن النادرة، لكن باريس لا تزال متأخرة كثيراً عن الصين، بحسب “فايننشال تايمز”. 

زيادة كبيرة في الطلب

وأعلنت عدة شركات أنها تلقت سيلاً من الطلبات من شركات تصنيع السيارات، والمجموعات الصناعية الباحثة عن المواد المستخدمة في إنتاج المغناطيسات الدائمة، التي تدخل في تطبيقات مثل المقاتلات الحربية، وتوربينات الرياح، والسيارات الكهربائية.

ونقلت الصحيفة عن إريك بيتيه، الرئيس التنفيذي لشركة MagREEsource المتخصصة في تصنيع المغناطيسات الدائمة، قوله: “الأمر محبط للغاية، فهناك طلب كبير، لكننا لا نملك القدرة الكافية لتلبيته”.

وتطور MagREEsource أحد المشاريع المدعومة بموجب قانون “المواد الخام الأساسية” في الاتحاد الأوروبي.

من جانبها، قالت آن نويتنز، رئيسة شركة Solvay Silica، التابعة لشركة الكيماويات البلجيكية Solvay، إن الشركة تتلقى سيلاً من النداءات “اليائسة” من عملاء قلقين من أن يؤدي نقص معادن الأرض النادرة إلى “مشكلات فورية”، مضيفة: “نتلقى اتصالات يومياً”.

فيما قال بعض المسؤولين التنفيذيين إن عدداً من شركات التجارة المتخصصة في شراء وبيع معادن الأرض النادرة أصبحت “جشعة”، وبدأت تعرض أسعاراً تصل إلى 10 أضعاف المعدلات “الطبيعية”.

ولطالما اعتبر صانعو السياسات في الاتحاد الأوروبي أن “الإفراط” في الاعتماد على الصين نقطة ضعف أساسية، إذ تلبي الصين 98% من احتياجات الاتحاد من مغناطيسات الأرض النادرة، وفقاً لبيانات المفوضية الأوروبية.

وأوضحت “فاينانشيال تايمز” أن هذه المعادن ليست نادرة بالمعنى الحرفي، بل تكمن الصعوبة في العثور على رواسب يمكن استخراجها بطريقة مجدية اقتصادياً، بالإضافة إلى أن عمليات فصلها ومعالجتها معقدة، وقد هيمنت الصين على هذا القطاع من خلال استثمارات ضخمة شملت مختلف مراحل سلسلة الإمداد.

واستفادت الشركات الصينية من قواعد بيئية أقل صرامة ودعم حكومي مكثف، وهو ما عجزت الشركات الغربية عن مجاراته.

ريادة فرنسية

وتستمد فرنسا موقعها المحوري في صلب الجهود الأوروبية لتطوير صناعة معادن الأرض النادرة من تاريخها الطويل كدولة رائدة في معالجة هذه المعادن، قبل أن تتفوق عليها الصين في هذا المجال.

كما تمتلك فرنسا طاقة نووية وفيرة ورخيصة نسبياً، وقد جذب ذلك المستثمرين بفضل حملة إعادة التصنيع التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون.

وتملك شركة Solvay منشأة في مدينة لا روشيل على الساحل الغربي لفرنسا منذ عام 1948، وقد بلغت ذروتها في الثمانينيات والتسعينيات حين كانت تنتج ما يصل إلى 15 ألف طن من أكاسيد معادن الأرض النادرة سنوياً.

وقالت الشركة في أبريل الماضي، إنها ستعيد إطلاق إنتاج أكاسيد معادن الأرض النادرة الثقيلة والخفيفة لاستخدامها في تكنولوجيا المغناطيسات المتقدمة، وذلك بالاعتماد على مواد مستخرجة من مصادر غير صينية.

قال إيمانويل هاشيه، الباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (Iris) في فرنسا، إن مجموعة Rhône-Poulenc الفرنسية للكيماويات، التي استحوذت عليها شركة Solvay في عام 2011، كانت تسيطر على نحو 50% من الحصة السوقية العالمية في مجال معالجة معادن الأرض النادرة حتى منتصف الثمانينيات.

وقال فريديريك كارنكوت، رئيس شركة Carester الناشئة في ليون وتأسست في عام 2019، إن الشركة تسير على الطريق الصحيح، لبدء إنتاج أكاسيد معادن الأرض النادرة الثقيلة بحلول عام 2026، باستخدام مصادر غير صينية أيضاً.

وحصلت Caremag، وهي شركة تابعة لـCarester، في مارس الماضي على تمويل بقيمة 216 مليون يورو من مستثمرين يابانيين والحكومة الفرنسية، لإنشاء منشأة لإعادة التدوير والتكرير في منطقة لاك جنوب فرنسا، ضمن إطار قانون المواد الخام الأساسية.

وقد خصص المشروع بالفعل 70% من إنتاجه المتوقع على مدى 10 سنوات لعملاء، من بينهم شركة صناعة السيارات Stellantis.

“الخبرة” جزء من المعادلة

من جانبها، قالت كارولين ميسيكار، المحللة في وكالة Fastmarkets المتخصصة في تتبع الأسعار، إن “الخبرة تُشكل جزءاً كبيراً من المعادلة، وفرنسا تمتلك قدراً كبيراً منها”.

وتخطط شركة Less Common Metals البريطانية لإنشاء مصنع بقيمة 110 ملايين يورو في المنطقة نفسها لتحويل الأكاسيد إلى معادن الأرض النادرة وسبائكها التي تدخل في تصنيع المغناطيسات الدائمة. وقالت الشركة إن تنفيذ المشروع مشروط بالحصول على التمويل اللازم وتأمين مشترين على المدى الطويل.

وقال جرانت سميث، رئيس Less Common Metals، وهي واحدة من الشركات القليلة خارج الصين القادرة على إنتاج معادن الأرض النادرة وسبائكها، إن الشركة “تعمل على مدار الساعة” لدعم عملائها.

وقال بيتيه من شركة MagREEsource، وهي شركة منبثقة عن المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، إن الصناعة المحلية بحاجة إلى مزيد من الدعم السياسي والمالي، إضافة إلى مشترين مستعدين لدفع علاوة سعرية مقابل المغناطيسات المُصنعة محلياً.

وأضاف: “نحن سعداء للغاية بالدعم… لكن بالمقارنة بما يحدث في الولايات المتحدة أو حجم الدعم في الصين، فهو للأسف غير كافٍ”.

وتأمل MagREEsource، التي جمعت 200 مليون يورو من مستثمرين وصناديق عامة لإنتاج مغناطيسات دائمة من مواد معاد تدويرها، في إنتاج 1000 طن سنوياً بحلول عام 2027، وهو رقم ضئيل للغاية مقارنةً بـ16000 طن تستوردها أوروبا سنوياً من الصين.

وقال مسؤول في الحكومة الفرنسية إن بلاده تسعى إلى إعادة النظر في قانون المواد الخام الأساسية التابع للاتحاد الأوروبي، وإدخال متطلبات لتخزين هذه المواد، كما طالبت بذلك شركات من بينها Solvay.

وقال إدواردو ريجيتي من “مركز الدراسات السياسية الأوروبية”، وهو مركز أبحاث مستقل، إن أوروبا “لا تزال بعيدة جداً عن امتلاك سلسلة قيمة مكتملة”، رغم أن فرنسا تقوم حالياً “بما هو مطلوب منها”.

ومع ذلك، حرصت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على تسليط الضوء على التقدم المحرز خلال قمة مجموعة السبع الأخيرة في كندا، حيث أحضرت معها مغناطيساً دائماً من إنتاج شركة Neo الناشئة.

شاركها.