– سدرة الحريري

“أريد أن أمسك عظم طفلي بيدي، أريد شيئًا ملموسًا لأصدق أن ابني مات فعلًا”.

بهذه الكلمات، عبّرت أم مكلومة عن وجعها العميق وفقدها المستمر، خلال مشاركتها في المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجنة التحقيق بمصير أطفال المعتقلين، في 8 من تموز الحالي، بحضور عدد من أهالي الضحايا.

الأم لم تتلقَ خبرًا يقينًا عن مصير أطفالها الأربعة الذين فقدتهم مع والدهم منذ عام 2013، ولا تزال حتى هذه اللحظة تتمسك ببصيص أمل، رغم مرور الزمن، وتبحث عن دليل مادي يضع حدًا لحالة الانتظار المؤلمة.

كلماتها جاءت في لحظة اختلط فيها الحزن بالغضب، لتجسد معاناة آلاف الأمهات اللواتي ينتظرن منذ سنوات معرفة مصير أبنائهن المغيبين قسرًا.

المؤتمر شكّل مساحة نادرة لعرض الشهادات والحقائق، وكشف الستار عن حجم الألم الذي يعيشه ذوو الأطفال المغيبين.

أوردت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في تقرير صادر في 11 من حزيران الماضي، أن 4536 طفلًا لا يزالون مختفين قسرًا في سوريا، منذ بدء الثورة السورية في 2011 حتى تاريخ إصدار التقرير.

في المقابل، صرح المتحدث الرسمي باسم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالحكومة السورية، سعد الجابري، لصحيفة “وول ستريت جورنال”، في حزيران الماضي، أن الوزارة عثرت على ملفات لـ300 طفل نُقلوا إلى أربع دور أيتام في دمشق، مشيرًا إلى أن العدد الإجمالي للأطفال المفقودين يُقدّر بـ3700 طفل.

بدوره، تحدث رئيس مجلس إدارة “الهيئة الأوروبية الدولية للتنمية وحقوق الإنسان”، أحمد محمود الأحمد، ل، موضحًا أن “الهيئة” تلقت العديد من الطلبات من ذوي الأطفال المغيبين بعد سقوط النظام في بعض المناطق، ما دفعهم للتواصل مع منظمة “قرى الأطفال SOS” في النمسا، حيث مقرها الرئيس.

وأشار الأحمد إلى أن كتابًا رسميًا تم تقديمه للمنظمة تضمّن مجموعة من الأدلة حول حالات تغييب الأطفال.

وبحسب الأحمد، فإن المنظمة اعترفت لاحقًا بتسلّم 80 طفلًا دون وثائق رسمية بين عامي 2014 و2018، بعد أن قررت “الهيئة” ملاحقتهم قانونيًا.

وقد أُعيد جميع هؤلاء الأطفال إلى حكومة النظام السوري السابق، دون رقابة دولية أو ضمانات قانونية، وهو ما أثار قلقًا متزايدًا حول مصيرهم.

من بين القصص التي تسلط الضوء على مأساة الأطفال المعتقلين، تبرز قضية الدكتورة رانيا العباسي، طبيبة الأسنان وبطلة سوريا السابقة في الشطرنج، التي اعتُقلت في آذار 2013 من منزلها برفقة أبنائها الستة، ولم يُعرف مصيرهم منذ ذلك الحين.
وكانت العباسي تبلغ من العمر حينها 43 عامًا، وأعمار أطفالها تتراوح بين 14 عامًا ورضيعة لم تتجاوز العامين.

وفي مؤتمر صحفي عُقد مؤخرًا للجنة التحقيق في مصير الأطفال المعتقلين، كشفت اللجنة عن وجود أربع فئات من الأطفال الذين تم اعتقالهم:

  • أطفال اعتُقلوا بمفردهم.
  • أطفال اعتُقلوا برفقة ذويهم.
  • أطفال وُلدوا نتيجة اغتصاب داخل المعتقلات.
  • أطفال نُقلوا بعد الولادة إلى خارج السجون، بعد أن اعتُقلت أمهاتهم وكنّ حوامل.

وأوضحت اللجنة أنها تواجه صعوبات كبيرة في إحصاء العدد الحقيقي لهؤلاء الأطفال، بسبب حساسية الموضوع، وامتناع العديد من الناجيات عن مشاركة شهاداتهن نتيجة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بقصص الاغتصاب.

دور الأيتام في دائرة الاتهام.. وشبكات تهريب منظمة

لم يقتصر الغموض الذي يلفّ مصير الأطفال المعتقلين والمغيبين قسرًا في سوريا على الأجهزة الأمنية، بل امتد إلى بعض دور الأيتام التي يُفترض أن تكون ملاذًا آمنًا للأطفال.
فبحسب شهادات وتقارير حقوقية، تورطت عدة مؤسسات للرعاية في إخفاء معلومات حيوية عن الأطفال الموجودين لديها، ورفضت التعاون مع أهاليهم أو الجهات الساعية لكشف مصيرهم، رغم المطالبات المتكررة.

ومن بين الدور التي وُجهت إليها اتهامات مباشرة، مجمع “لحن الحياة” في قدسيا، و”دار الرحمة”، و”قرى الأطفال SOS”، حيث أثار دورها المثير للريبة مخاوف واسعة من ضياع مصير مئات الأطفال الذين مروا عبرها، وسط تساؤلات عن أسباب إخفاء هذه المعلومات، وما إذا كان ذلك تم بتواطؤ مع جهات أمنية أو لأغراض غير قانونية.

بدوره، كشف رئيس مجلس إدارة “الهيئة الأوروبية الدولية للتنمية وحقوق الإنسان”، أحمد محمود الأحمد، ل، عن معلومات شبه مؤكدة تشير إلى أن عددًا من الأطفال تم تغيير كُناهم، مع الإبقاء على أسمائهم الأولى، وإرسالهم إلى خارج البلاد، في إطار عمليات يُشتبه في أنها منظمة وتدار بالتعاون مع مافيات تهريب وشبكات مرتبطة بالنظام السابق.

وبحسب الأحمد، فإن بعض الأطفال نُقلوا بالفعل إلى دول مثل كندا وإيطاليا، مقابل مبالغ مالية، في إطار ما وصفه بـ”جريمة منظمة وعابرة للحدود”.

الأحمد وصف ملف الأطفال المغيبين قسرًا بأنه من “أخطر الملفات الإنسانية في سوريا”، مشيرًا إلى أن التحقيقات التي أجرتها “الهيئة” تشير إلى تورط شبكة منظمة تضم جهات أمنية وجمعيات أهلية في عمليات تهريب الأطفال.

وأكد الأحمد، في حديثه ل، أن المعطيات المتوفرة تشير إلى احتمال ضلوع شخصيات نافذة في هذا الملف، من بينها أسماء الأسد، وهو ما تتابعه “الهيئة”.

وأوضح أن بعض الأطفال، وفق معلومات جمعتها “الهيئة”، تم تسليمهم لأسر تبنٍّ في الخارج مقابل مبالغ مالية، فيما يرجّح أن آخرين وقعوا ضحايا لشبكات الاتجار بالأعضاء أو الاستغلال الجنسي، لا سيما من تجاوزوا سن الطفولة واقتربوا من سن البلوغ.
وأشار إلى وجود سجل موثّق ومحفوظ لدى “الهيئة” يتضمن معلومات عن هذه العمليات، مؤكدًا أن “الهيئة” ستسلمه إلى لجنة التحقيق والسلطات السورية.

كما أوضح أن محاولات “الهيئة” للتواصل مع وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية الحالية لم تلقَ استجابة، رغم أهمية المعلومات وخطورتها.
وقال الأحمد، إن “الهيئة” تعتزم خلال الأيام المقبلة إرسال تقرير مفصّل إلى المحكمة الجنائية الدولية، وإلى التحالف الدولي لمكافحة الاتجار بالبشر، لدفع الجهات الدولية نحو التحرك الفعلي.

ورغم الأهمية البالغة لهذه القضية، فإن استجابة السلطات جاءت متأخرة، وهذا ما أسهم في تعقيد جهود الكشف عن مصير الأطفال، وضياع أدلة حاسمة وإتلاف أخرى، فضلًا عن تمكن بعض المتورطين في الشبكة من الهروب والإفلات من المساءلة، بحسب ما قاله الأحمد.

لجنة التحقيق.. جهود شاقة ومعلومات شحيحة

خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجنة التحقيق في قضية الأطفال المغيبين قسرًا، دعت اللجنة ذوي الضحايا إلى الإبلاغ عن أي معلومات أو شهادات موثوقة قد تساعد في كشف مصير الأطفال، مشددة على ضرورة أن يتم ذلك حصريًا من خلال القنوات الرسمية التابعة للجنة، وليس عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حرصًا على عدم ضياع الأدلة أو استغلالها إعلاميًا بطريقة تضر بالقضية وتعوق المسار القانوني.

وأوضحت نور جزائرلي، الممثلة عن منظمات المجتمع المدني في اللجنة، أن العدد الموثق حاليًا من قبل الجمعيات ودور الأيتام يبلغ 314 حالة فقط، وهو رقم أقل بكثير من الأرقام المتداولة، ما يشير إلى حجم الصعوبات التي تواجه اللجنة في الوصول إلى بيانات دقيقة وشاملة.

تتألف اللجنة من ممثلين عن جهات حكومية ومجتمع مدني، وتضم كلًا من:

  • رغداء زيدان، رئيسة اللجنة ومستشارة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل.
    • القاضي حسام خطاب، ممثل عن وزارة العدل.
  • المحامي سامر القربي، ممثل عن وزارة الداخلية.
  • نور جزائرلي، ممثلة منظمات المجتمع المدني.
  • مياسة الشيخ أحمد، ممثلة منظمات المجتمع المدني.

توسيع اللجنة وضم وزارات جديدة

المتحدث الرسمي باسم لجنة التحقيق وممثل وزارة الداخلية، المحامي سامر القربي، قال في تصريح ل، إن الإجراءات الأولية التي اتخذتها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدأت بتشكيل لجنة مصغرة، لكن مع تبيّن تعقيد الملف وتشابك الجهات المعنية، تم توسيعها لتضم ممثلين عن عدة وزارات ومنظمات المجتمع المدني.

وأشار القربي إلى أن عملية حصر الأطفال الذين لا يمتلكون ملفات رسمية لا تزال مستمرة، مؤكدًا في الوقت ذاته أن المعلومات المتوفرة حتى الآن غير مكتملة، ما يعوق التقدم في تحديد الأعداد الدقيقة أو حالات بعينها.

وبشأن التعاون مع جهات دولية مستقلة ومنظمات إنسانية للدخول إلى دور الأيتام ومراجعة أوضاع الأطفال، شدد القربي على أن اللجنة لا تمانع أي تعاون خارجي، وأن الباب مفتوح لأي جهة دولية أو محلية ترغب بالمساهمة في تقصي الحقيقة وتحقيق العدالة.

ورغم الجهود الجارية، أقرّ القربي بأن اللجنة لم تصل بعد إلى مرحلة التحقق من هوية الأطفال الذين يمكن إعادتهم إلى عائلاتهم، معتبرًا أن الطريق لا يزال طويلًا ومعقّدًا، ويتطلب مزيدًا من التنسيق والمعلومات الموثقة.

في دور الأيتام “المعتقلات الصامتة” التي لا تصلها الكاميرات، وبين جدران الصمت والخوف، كبر أطفال ولم يكبروا.

غابوا عن مقاعد الدراسة، عن أحضان أمهاتهم، وعن سجلات الدولة التي تنكرت لوجودهم، وكأنهم لم يكونوا يومًا.
لكن وجوه الأمهات التي لم تيأس، وفي دفاتر التحقيق التي تُفتح ببطء، هناك أمل خافت بأن يعود اسم طفل مفقود إلى بيت يعرفه، إلى فراش ينتظره، أو على الأقل، إلى قبر يُزار.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.