كشفت دراسة علمية حديثة عن مفاجأة في عالم أبحاث السرطان؛ تتمثل في أن الأخطاء التي تحدث في الكروموسومات عند ما يُعرف بالانتقالات، أي عمليات “القص واللصق” التي يقع فيها جزء من كروموسوم ويُعاد ربطه في مكان آخر، ليست مجرد خلل محدود يؤثر على جين أو جينين قريبين من موقع الكسر كما كان يُعتقد لسنوات طويلة؛ بل تبين أن هذه الأخطاء قد تُطلق سلسلة من “الموجات الجينية” التي تمتد على مساحة هائلة تصل إلى عشرات الملايين من القواعد الوراثية، وتُعيد تشكيل نشاط عشرات الجينات في آن واحد.
ويغير هذا الاكتشاف النظرة التقليدية لكيفية نشوء بعض أنواع السرطان، ومنها “ليمفوما الخلية الردائية” – وهو نوع نادر عدواني من سرطانات الدم- إذ لم يعد الخطر محصوراً في الجينات المقطوعة أو المدمجة مباشرة، بل اتضح أن العملية برمتها أشبه بإعادة توصيل شبكة كهربائية كاملة، ما يفتح الباب لفهم أعمق لآليات المرض ويكشف عن أهداف علاجية جديدة لم تكن مرئية من قبل.
وتُعد الانتقالات الكروموسومية من أبرز أسباب السرطانات اللمفاوية، إذ تتبادل قطع من الكروموسومات أماكنها مسببة خللاً في نشاط الجينات، وربما يؤدي هذا الخلل إلى تعطيل جينات أساسية أو إنتاج بروتينات هجينة تساهم في نشوء الورم.
ويُصاب نحو شخص واحد من كل 100 ألف سنوياً باللمفوما ذات الخلايا الردائية، التي لا يزال علاجها يمثل تحدياً طبياً لغياب علاج شاف حتى الآن.
وركزت الأبحاث لعقود على الجينات القريبة من نقاط الانكسار التي تحدث فيها عملية القص واللزق، لكن فريق مركز تنظيم الجينوم في إسبانيا أثبت أن هذه النظرة ضيقة للغاية.
وأظهرت الدراسة التي نُشرت في دورية “نيوكليك أسيد ريسيرش” أن الانتقال الأكثر شيوعاً في هذا النوع من السرطان – حيث يتبادل جزء من الكروموسوم 14 موقعه مع جزء من الكروموسوم 11 – لا ينشط جيناً واحداً وحسب، بل يؤدي إلى رفع نشاط ما يقرب من 50 جيناً دفعة واحدة، أي نحو 7% من جينات الكروموسوم 11 بأكمله.
وقالت المؤلفة الرئيسية للدراسة، رينيه بيكمان: “لم نتوقع أن نرى انتقالاً واحداً قادراً على تعزيز نشاط هذا العدد الهائل من الجينات.. إن حجم الاضطراب يفوق كل التوقعات، وهذا يفتح الباب أمام اكتشاف جينات جديدة تقود السرطان وتمثل أهدافاً علاجية محتملة”.
ويكمن السر في عنصر تنظيمي قوي يُعرف باسم المُعزز IGH، وهو جزء صغير من الشفرة الوراثية يعمل كمنظم قوي لجين السلسلة الثقيلة في الأجسام المضادة، وهي البروتينات التي يعتمد عليها جهاز المناعة لمهاجمة الفيروسات والبكتيريا.
وتشبه وظيفة المعزز مكبر الصوت؛ فهو لا ينتج بروتينات بنفسه، لكنه يدفع الجين المرتبط به إلى إنتاج كميات ضخمة من السلاسل الثقيلة حين تحتاج الخلايا البائية إلى تصنيع مليارات الأجسام المضادة بسرعة، غير أن قوته الكبيرة تتحول إلى خطر إذا حدث خطأ في الكروموسومات، إذ قد ينكسر موقعه الأصلي ويلتصق بجين آخر لا علاقة له بالمناعة، عندها يضع هذا المعزز الجين الجديد تحت سيطرته ويجبره على العمل بطاقة مفرطة، وهو ما يؤدي في كثير من الحالات إلى نمو سرطاني جامح كما يحدث في بعض أنواع أورام الدم والغدد اللمفاوية.
ما هي الكروموسومات؟
-
هي تراكيب دقيقة موجودة داخل نواة الخلية.
-
تتكون أساساً من الحمض النووي المرتبط ببروتينات خاصة تساعد على تنظيمه.
-
تحمل الكروموسومات التعليمات الوراثية التي تحدد صفات الكائن الحي ووظائف خلاياه.
-
عددها ثابت لكل نوع؛ فالإنسان يمتلك 46 كروموسوماً (23 زوجاً).
-
تنقسم إلى كروموسومات جسدية وكروموسومات جنسية تحدد جنس الفرد.
-
خلال انقسام الخلايا، تتضاعف الكروموسومات لضمان وصول نسخة كاملة من المادة الوراثية إلى كل خلية جديدة.
-
أي خلل أو تغيير في عدد أو تركيب الكروموسومات قد يؤدي إلى أمراض وراثية أو سرطانية.
عندما يحدث انتقال كروموسومي – أي كسر في قطعة من الشريط الوراثي والتحامها في مكان آخر غير طبيعي – ربما ينتقل المعزز شديد القوة الخاص بجين الأجسام المضادة الثقيلة إلى جوار جين آخر لا علاقة له بالمناعة، مثل الجين المعروف باسم CCND1.
ويلعب هذا الجين بطبيعته دوراً مهماً في التحكم بدورة انقسام الخلية من خلال إنتاج بروتين يسمى “سايكلين D1″، وهو بمثابة إشارة خضراء تسمح للخلية بالانتقال إلى مرحلة الانقسام والتكاثر.
في الوضع الطبيعي، يكون نشاط هذا الجين مضبوطاً بدقة حتى لا تنقسم الخلايا دون حساب، لكن بمجرد أن يهبط معزز الأجسام المضادة بجانبه، يتعامل معه كما لو كان جيناً مخصصاً لصناعة كميات هائلة من البروتينات الدفاعية.
لذا؛ يبدأ جين CCND1 في العمل بأقصى طاقته، فينتج كميات مفرطة من بروتين سايكلين D1، ما يدفع الخلايا إلى الانقسام بشكل متسارع خارج السيطرة، ومع تكرار هذه العملية عبر أجيال من الخلايا، يتشكل نسيج سرطاني عدواني، وهو ما يحدث في بعض الأورام مثل المايلوما المتعددة أو بعض سرطانات الغدد اللمفاوية.
نشاط غير كافي
لكن الفريق أثبت أن زيادة نشاط CCND1 وحدها غير كافية لبدء الورم، وباستخدام تقنية كريسبر للتعديل الجيني؛ أعاد الباحثون توليد نفس الانتقال في خلايا بائية سليمة مخبرياً، وكانت المفاجأة أن التأثير امتد عبر 50 مليون زوج قاعدي على طول الكروموسوم 11، مؤثراً على أكثر من 50 جيناً.
وقالت المؤلفة الأولى للدراسة، آنا أونسنس، إن الحمض النووي لا يتمدد في خط مستقيم داخل الخلية، بل يلتف في حلقات ثلاثية الأبعاد “وعندما ينتقل المعزز IGH، فإنه يهبط داخل حلقة قائمة مسبقاً، ما يمنحه موقعاً مميزاً يمكنه من التأثير على مجموعة واسعة من الجينات دفعة واحدة”.
ومن اللافت أن معظم الجينات المتأثرة لم تكن خاملة أصلاً؛ إذ يعمل المعزز على رفع مستوى نشاطها أكثر، وهو ما يفسر لماذا قد تكون نتائج الانتقال متباينة بين نوع خلية وآخر أو بين مراحل مختلفة من التطور.
تشير النتائج إلى إمكانية تطوير أدوات للكشف المبكر عن اللمفوما ذات الخلايا الردائية عبر “البصمة الجينية” للخلايا البائية المعرضة للخطر، قبل تحوّلها إلى ورم كامل.
ويخطط فريق البحث لدراسة دور الجينات الجديدة التي تم تحديدها في تطور المرض، بهدف تصميم استراتيجيات علاجية تستهدف هذه الشبكة الواسعة من الجينات، وليس جيناً واحداً فقط.
ويأمل الباحثون أن تفتح هذه المقاربة الباب أمام علاجات أكثر شمولية وفعالية، ليس لهذا النوع من الأورام فقط، بل لأنواع أخرى من السرطانات الناجمة عن الانتقالات الكروموسومية.