“تمرحل التاريخ” هو مصطلح ظهر في علم الاجتماع الحديث للدلالة على مسارات تطور المجتمعات وحركتها، وللدلالة على أن المجتمع ليس وليد لحظته بل هو ابن مسار وسياق تاريخي وسياسي كان قد أوصله إلى هنا وسيوصله إلى حيث يتجه.

مفهوم هام وواسع، وكان قد استخدمه منظّرون كبار، ولعلّ أهمهم في القرن العشرين شبينغلر في كتابه “انحدار الغرب” (1918)، والمفكر الفرنسي لويس ألتوسير، وغيرهم.

 

ونحن اليوم أشد ما نكون حاجةً لتطبيق هذا المفهوم واستعماله على واقعنا السوري، خاصةً وأنه من الواضح أن الذاكرة السياسية السورية قصيرة جدًا، ولحظية وراهنية بشكل مبالغ فيه، إلى درجة أنها غالبًا ما تنسى وتغرق في مستنقع لحظتها، ليفقد الوعي السياسي السوري الأسئلة الثلاثة الأهم: من أين؟ وأين نحن الآن؟ وإلى أين؟ ويغرق في اللحظة الحالية والحدث الحالي وحده لا غير.

 

وفيما يلي، سأحاول تقديم إجابة عن الأسئلة الثلاثة السابقة:

 

أولًا: من أين نحن قادمون؟

الجواب السريع والمباشر على هذا السؤال: من حربٍ دامت خمسة عشر عامًا، سوداء ومُرّة، لم تترك لا أخضرًا ولا يابسًا. حرقت الزرع والضرع، وحوّلت المجتمع السوري إلى أشلاء على كافة المستويات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية (وحتى النفسية!).

 

ويمكن هنا أن تخدمنا الأرقام قليلًا لندرك حجم الهوّة التي نحن فيها، أو التي نحن قادمون منها…

 

ففي آخر تقرير أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول سوريا، قُدرت خسائر صافي الناتج المحلي السوري بنحو 800 مليار دولار.

وبحسب مؤشرات مدركات الفساد الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية عام 2024، حصلت سوريا على درجة 13 على مقياس يتراوح من 0 (فاسد للغاية) إلى 100 (معايير الشفافية عالية ومثالية)، وهي من بين أسوأ المعدلات عالميًا.

 

وفي قائمة أسوأ المدن للعيش في العالم، كانت دمشق في الصدارة، وسوريا عمومًا تتنافس مع اليمن، الصومال، وزيمبابوي على المرتبة الأولى.

يشير التقرير الأممي إلى أرقام مروّعة حول كل ما يتعلق بمؤشرات الاستقرار الأمني، وتدهور البنى التحتية، وشبكات الصرف الصحي، وعدم توفر مياه شرب نظيفة، وانعدام الكهرباء ومصادر الطاقة، وانتشار الأمراض والأوبئة، وانهيار التعليم والصحة والقضاء، إلى جانب تفشي الفقر بشكل غير مسبوق.

 

وفي تقرير مضحك مبكٍ لمركز “جسور للدراسات”، تمّ رصد 830 موقعًا عسكريًا في سوريا يعود لأكثر من 16 دولة أجنبية، تتمركز فيها قوات أو قواعد أو نقاط استخبارات على الأراضي السورية المستباحة فعليًا.

 

هذه لمحة سريعة عمّا أوصلتنا إليه الحرب الكارثية، والى أي درك بلغنا.

إنه الواقع الذي لا يرحم. من هنا نبدأ، ومن هنا كان علينا التحرك والمتابعة والبناء كسوريين عشية سقوط النظام بالضبط.

 

ثانيًا: أين نحن الآن؟

منذ سقوط النظام، كانت المهمة الأكبر أمام السوريين، دولةً وشعبًا، هي السلم الأهلي.

كان السلم الأهلي هو المفصل الحقيقي للمرحلة، وعنوانها الفعلي والأهم على كافة الصعد.

 

لقد كنا أمام اختبار صعب وخطر، وكانت السلطة السورية الجديدة التي تولت زمام الأمور أمام هذا الاختبار وجهًا لوجه.

المشهد كان حساسًا وشديد القابلية للانفجار:

من جهة، أقليات خائفة ومتشنجة وشبه مسلحة (والشعب السوري بمجمله كان شبه مسلح كنتيجة طبيعية لفوضى السلاح خلال الحرب الأهلية).

ومن جهة أخرى، فوضى مجتمعية منفلتة منتشرة في كافة الأرياف والمدن السورية: طائفية، وتطرف، وعشائرية، ومناطقية، وتحزّب، وصراعات شخصية ونزاعات فردية.

 

كل ذلك انفجر دفعة واحدة، وهدد بانزلاق المجتمع نحو التفكك وفوضى لا قعر لها.

في الحقيقة، كان الوضع منفتحًا على كافة الاحتمالات، بما فيها الأكثر سوداوية. وكان احتمال “الصوملة” واقعيًا للغاية.

 

لكن وعي الشعب السوري انتصر.

لقد اختار الفلاح السوري الطيب التعايش والبناء كخيار وطني في لحظة حاسمة، وعبرنا مفترق الطرق نحو السلم الأهلي.

تسعون بالمئة من الشعب السوري اختاروا إنهاء الحرب، ووقف الاقتتال الطائفي، وتأسيس تعايش بسيط وصادق.

 

في غياب سلطة مركزية في معظم المناطق، اجتمع الأهالي والعقلاء والوجهاء، وأسسوا عقدًا اجتماعيًا عفويًا امتد بطول البلاد وعرضها.

أما العشرة بالمئة من المتطرفين، من كل الأطراف، فلم يرقهم هذا الواقع، وتسببوا بانتكاسة “6 آذار” المريرة، لكن التيار الشعبي المؤيد للسلم الأهلي استمر، وجبر الجراح، ومضى في طريقه بقوة لا تُرد.

 

ومع توطد السلطة الجديدة، التي كان معظم قادتها من أبناء الأرياف، دعمت الدولة هذا الخيار المركزي، باستثناء بعض الحالات الفردية المتطرفة التي لم تؤثر على المسار العام.

 

وخلاصة القول:

نحن اليوم، وبعد نحو ثمانية أشهر على سقوط نظام الطغيان، قد قطعنا أشواطًا واسعة في اختبار السلم الأهلي.

ورغم بعض التوترات هنا وهناك، يمكن القول إنّ المرحلة الأخطر قد أصبحت خلفنا.

 

ثالثًا: إلى أين؟

إن مرحلة ما بعد ترسيخ السلم الأهلي هي مرحلة بناء الدولة.

إنها الانتقال إلى المستوى الأعلى من العمل الوطني:

إلى بناء المؤسسات، وتحقيق سيادة القانون، واستكمال التحول الديمقراطي.

 

لم يعد العمل أهليًا وعفويًا فقط، بل نحن بحاجة إلى عمل سياسي منظم ومؤسساتي.

والإجابة على سؤال “إلى أين؟” واضحة: إلى بناء الدولة.

 

فما هي متطلبات بناء الدولة السورية اليوم؟ يمكن تلخيصها بثلاث مهام حاسمة:

توحيد الجغرافيا السورية:

  • سوريا دولة موحدة، مركزية، عاصمتها دمشق.
  • دولة قانون ومواطنة، لا تقبل بوجود حي أو قرية خارج سلطة الدولة، أو خاضعة لميليشيا أو جهة غير حكومية.
  • سيادة القانون يجب أن تسري على كامل التراب السوري، بلا استثناء.

 

تحدي التنمية:

  • في ظل التخريب الممنهج للبنية التحتية، نواجه اليوم تحديًا وجوديًا هو التنمية.
  • الاقتصاد منهار، والفقر كارثي، وكثير من العائلات السورية تعيش على وجبة واحدة يوميًا.
  • من دون تنمية حقيقية، لا يمكن للدولة أن تقوم.

 

تحقيق السيادة الوطنية:

ورغم أن المجال لا يسمح بالإطالة، فإن أساس تحقيق السيادة واضح:

دور عربي محوري، يستند إلى اتفاقيات الدفاع العربي المشترك ضمن جامعة الدول العربية، خاصة في ظل ضعف الجيش السوري، وإعادة بنائه من الصفر، واعتماده فقط على السلاح المتوسط والخفيف.

 

إن بناء الدولة السورية هو قارب النجاة، والمرفأ الآمن، لكل مكونات الشعب السوري.

بدون دولة، لا حياة.

وسنغرق من جديد في فوضى الزعران وأمراء الحرب والطوائف.

مشهد كارثي لا يعرف سوداويته إلا من عاشه.

 

وقد قال الشعب السوري كلمته:

عشناه، ولكن لن نسمح بتكراره أبدًا.

مقال رأي|| المشهد السوري: وإلى أين نتجه؟

🔹 ملاحظة: هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر الوكالة

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية

شاركها.