يحدد الفيلسوف الألماني هيغل (17701831) مفهوم الدولة بدقة منذ بدايات القرن التاسع عشر، على أنها التعبير السياسي والمؤسساتي الحقيقي للمجتمع المدني.
وكل الفلسفة السياسية الحديثة قد سارت على هدى هذا التحديد بوصفه ركيزة وأساساً للتفكير السياسي المعاصر.
إنها حقيقة كبرى، فالمجتمع الذي هو مجموعة ضخمة من المصالح الخاصة يكون فيه كل شخص مسترشداً بالضرورة الوحيدة المتمثلة في النجاح في شؤونه الخاصة، لن ينظر إلى الغير هنا إلا على أنه عقبة أو عائق في أغلب الحالات أمام مساعيه.
إنها الصورة المعروفة تماماً في الفلسفة السياسية الحديثة (لوك وهوبز وروسو وغيرهم) عن حرب الكل ضد الكل.
المجتمع المدني الحديث (والذي هو فعلياً علامة ومؤشر الحضارة وعلامة التحضر الإنساني الأكثر الأساسية والأكثر مركزية) ميزته الأساسية وعلامته الفارقة أنه مجتمع استطاع فرز مؤسسة أو جهة أو هيئة ناظمة جامعة هي فعلياً فوق المصالح الخاصة وتناحراتها وصداماتها وصراعاتها..
إنها جهة فوق الجهات وفوق الفئات، أعلى منها، متأثرة بها ومنتمية إليها وتخدمها بمعنى تنظيم وجودها وحياتها وسبل عيشها وصراعاتها أيضاً.. إنها الدولة.
الدولة الحديثة بمعناها العصري التي استطاعت إدخال الإنسان إلى الحضارة وعبرت عن نفسها بعلامتها الفارقة الأكثر جوهرية: سيادة القانون.
هذا الاختراع، إنه تقريباً علامة الحضارة الرئيسية اليوم: الدولة.
إنه المنتج الأكثر أهمية للمجتمعات الإنسانية، ومؤشر تحضرها وقدرتها على التقدم والحياة والازدهار، إنها الدولة بما تعنيه من مؤسسات وقانون وتمثيل مجتمعي ومشروع سياسي جامع.
وباختصار إذا كان المجتمع الإنساني في عملية تطوره أفرز أو أوجد الدولة في مراحل نضجه التاريخية، فاليوم انقلبت المعادلة، فصارت الدولة فعلياً هي شرط وجود المجتمع.
فلا مجتمع مدني ولا ازدهار ولا تقدم ولا حضارة ولا تنمية ولا حداثة من أي نوع كان لا سياسي ولا اقتصادي ولا اجتماعي ولا ثقافي من دون تحقيق الشرط اللازم الضروري والبدائي والحتمي: وجود الدولة.
لا مجتمع من دون دولة.. بل قبائل وعشائر وملل، وميليشيات وعصابات وجماعات ضغط وقوى فئوية متناحرة ليصبح المشهد أشبه بخريطة غابة عامة وحرب غريزية عامة لا تشبه المجتمع الإنساني المتحضر في شيء.
إن ما نذكره هنا ليس سوى مسلمات منتهية في الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة.
إنها ثوابت مبدئية تشبه ثوابت الجاذبية في العلوم الطبيعية. ومؤكدة ومحسومة في كل مجتمع متمدن ومتحضر.
لننزل الآن من عالم الأفكار والفلسفة السياسية إلى أرض وقائع الحدث السوري.
يمكن تصنيف المشهد السوري اليوم وفي لحظته التاريخية الحالية بناءً على موضوع بناء الدولة المركزية والتي طرحناها أعلاه.
إنه التحدي الأكبر اليوم والمسألة الأخطر والأكثر الحاحاً وحضوراً. إنها مسألة تفرض نفسها في كل تفاصيل الحياة السورية بدءاً من القضايا الإقليمية والدولية انتهاءاً بتفاصيل الحياة اليومية لكل مواطن سوري في كل حي وفي كل حارة وفي كل قرية.. إنها مسألة بناء الدولة.
تياران كبيران يهيمنان على المشهد السياسي في سوريا
تيار أول يريد بناء الدولة وإعادة تأسيسها بعد أن صارت أنقاض إثر حرب مدمرة استمرت خمسة عشر عاماً، وبعد أن حولها النظام إلى غابة مليشيات وخرائب ومناطق نفوذ، ثم ليوجه الضربة القاضية للبقية الباقية منها بهروبه الشهير هو وأركانه.
وتيار ثاني يريد الحفاظ على خرائب النفوذ تلك بالضبط والتي كانت قد خلفتها الحرب السورية المريرة والتي كان قد خلفها النظام القمعي بحربه القذرة على الشعب السوري.
بهذين التيارين يمكن تلخيص كل المشهد السوري اليوم. كل القوى الفاعلة والموجودة في سوريا يمكن اختصارها وتحديد جوهرها عبر السؤال المركزي والبسيط والواضح: هل هي مع بناء الدولة الجديدة في سوريا أم لا؟
وبناء على الإجابة على هذا السؤال يتحدد كل شيء. وبشكل أكثر دقة: هل هذه الجهة السياسية في سلوكها العملي على الأرض (بعيداً عن كل تفاصيل شكلية أو خارجية إذ ليس لها أي أهمية هنا) في سلوكها وممارستها السياسية والواقعية بالذات، هل هي تخدم قضية بناء الدولة السورية المركزية (أو إعادة بنائها من أجل الدقة) أم لا؟
وبناء على الجواب يتحدد كل شيء.
فالجهات الساعية لإعادة البناء وإعادة إرساء قواعد الدولة المفقودة في المجتمع السوري منذ عقود هي بكل بساطة جهات تخدم التقدم والازدهار والتحول الديموقراطي في سوريا.
وكل جهة مهما كانت وأينما كانت ومهما كانت في بياناتها وتصريحاتها، تطالب بالمجتمع المدني وبالدستور والديموقراطية وغيره، ولكنها في واقع الأمر وفي ممارستها السياسية على الأرض تعرقل استكمال عملية بناء الدولة ومؤسساتها، فهي فعلياً وفي واقع الأمر أكبر عدو للمجتمع المدني وأكبر معيق للتقدم والازدهار والتنمية واستقرار المجتمع السوري قولا واحداً.
لا يمكن الحديث عن ازدهار وتقدم في سوريا من دون استقرار مجتمع مدني راسخ (مؤشر المجتمعات الإنسانية الحديثة والمتحضرة وعلامتها) ولا يمكن الحديث عن مجتمع مدني من دون دولة سورية حقيقية. فكل طريق نحو الازدهار أو التقدم والاستقرار في سوريا يمر عبر ممر اجباري حتمي هو ممر الدولة المركزية.
وكل قوة تعرقل بناء الدولة، وكل فكر منافي لبناء الدولة، وكل شخص أو مؤثر أو سياسي يمنع أو يعيق عملية البناء هذه هو في فعلياً يقف في صف الفوضى والحرب الأهلية والخراب المجتمعي الأكيد.
وكل قوة تدفع في اتجاه بناء هذه الدولة (بصورة واعية أو غير واعية) فهي تدفع بشكل أوتوماتيكي في اتجاه الاستقرار والازدهار والمجتمع المدني والتحول الديموقراطي.
هذه هي المعادلة وهذه هي القاعدة
إنها المعادلة التي تلخص مشهد الحياة السياسية السورية اليوم في واحدة من أهم مراحلها حساسية وخطورة.
إننا في لحظة تاريخية هي أن نكون كسوريين أو لا نكون، أي أن ننجح في تحدي بناء الدولة أو لا نكون، أن ننجح في استعادة بناء الدولة الذي كنا قد خسرناه لعقود طويلة لصالح عصابات ومصالح ومراكز قوى طائفية ومذهبية وفئوية فرضت علينا تأخرنا وتخلفنا لعقود طويلة حتى صرنا فعليا في آخر ركب الأمم ومضرب مثل لأخذ العبر.
🔹 ملاحظة: هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر الوكالة
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية