في الوقت الذي تتزايد فيه التقارير عن الانتهاكات التي يتعرض لها الأجانب في تركيا، خصوصًا داخل مراكز الترحيل، تأتي شهادة جديدة لتسلّط الضوء على ما قد يرقى إلى تجاوزات إجرائية وحقوقية بحق أحد المقيمين بعد تعرّضه لحادث مروري في مدينة إسطنبول.

 

مراكز الترحيل في تركيا: بين الرقابة الدولية وشكاوى المحتجزين

 

تدير السلطات التركية عددًا من مراكز الترحيل المنتشرة في مختلف الولايات، والتي تُستخدم لاحتجاز الأجانب المخالفين لنظام الإقامة أو الذين يُعتقد أنهم يشكّلون خطرًا على النظام العام، إلى حين اتخاذ قرار بترحيلهم أو إطلاق سراحهم. ورغم تأكيد وزارة الداخلية على أن هذه المراكز تخضع للرقابة وتوفّر الحد الأدنى من المعايير الحقوقية، فإن منظمات حقوقية محلية ودولية، بينها “هيومن رايتس ووتش”، وثّقت حالات احتجاز تعسفي وسوء معاملة وإجراءات قانونية غامضة داخل بعض هذه المراكز.

 

من حادث مروري إلى إجراءات ترحيل غامضة

 

في يوم 14 نيسان/أبريل 2024، تعرّض أحد المقيمين الأجانب لحادث مروري في منطقة إسنيورت، الواقعة في القسم الأوروبي من ولاية إسطنبول، حين اصطدم طفل بدراجته النارية. حضرت سيارة إسعاف لنقل الطفل إلى المستشفى، بينما حضرت دورية من الشرطة لنقل سائق الدراجة إلى قسم الشرطة لتقديم إفادته.

 

لكن ما بدأ كحادث مروري بسيط، تحوّل سريعًا إلى سلسلة من الإجراءات المثيرة للقلق. فبعد نقله إلى قسم الشرطة، بقي المحتجز قرابة ساعتين دون أن يُستجوب، قبل أن يتم أخذ جميع متعلقاته الشخصية، مثل الهاتف، ووضعها في قسم الأمانات، ليُحتجز لاحقًا داخل زنزانة.

 

لاحقًا، وبعد منتصف الليل، تم اقتياده مقيّد اليدين إلى قسم الأدلة الجنائية في منطقة أفجلار، حيث أُخذت بصماته والتُقطت له صور كما تُلتقط للمجرمين من الأمام واليمين واليسار بينما ظل يسمع خلال العملية كلمة “ترحيل” باللغة التركية (deport)، ما زاد من قلقه وغموض الموقف.

 

أُعيد مرة أخرى إلى قسم الشرطة، ثم نُقل بعد ساعتين إلى مستشفى برفقة عناصر شرطة، بينما كان لا يزال مكبّل اليدين. وهناك سأله الطبيب فيما إذا كان قد تعرّض للضرب من قبل الشرطة، فأجاب بالنفي. بعد ذلك، أُعيد إلى زنزانته في القسم.

 

مع أذان الفجر تقريبًا، أُخرج من الزنزانة واقتيد لتقديم إفادته أمام ضابط شرطة. وخلال الاستجواب، سأل إن كان الطفل قد أصيب بأي أذى، فأُبلغ أن الطفل خرج من المستشفى خلال ساعة أو ساعتين بعد التأكد من سلامته.

 

بعد روايته لما جرى، سأل الضابطة إن كان بحاجة إلى توكيل محامٍ، فأجابت بأن دور الشرطة قد انتهى، وأنه سيتم نقله إلى دائرة الهجرة لتقييم وضعه، دون أن توضح ما إذا كان من الضروري توكيل محامٍ في المرحلة التالية.

 

اللافت في الشهادة أن كلمة “ترحيل” ظلّت تُتردد مرارًا خلال مراحل الاحتجاز الثلاث، رغم عدم وجود مؤشرات واضحة على ارتكاب أي جرم يستوجب هذا الإجراء.

في حوالي الساعة العاشرة صباحًا، حضرت سيارة تابعة لإدارة الهجرة إلى قسم الشرطة، وبداخلها عنصران من شرطة الهجرة، حيث تم تسليم الموقوف أماناته الشخصية قبل أن يُصفد ويُنقل إلى مركز الترحيل في أرناؤوط كوي.

 

عند الوصول، تم وضع الموقوف في غرفة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، إلى جانب نحو اثني عشر شخصًا من جنسيات متعددة. الغرفة كانت مغلقة، بمفارش متسخة ونافذة وحيدة تُفتح فقط عند طلب الخروج إلى المرحاض. استمر الاحتجاز في هذه الظروف لقرابة خمس ساعات.

 

لاحقًا، تم استدعاء أسماء عدد من الموقوفين من ضمنهم الشاهد ليُجمعوا في ساحة داخل السجن حيث أُعيد إليهم جزء من أماناتهم استعدادًا لنقلهم إلى قسم آخر تديره قوات الجندرما التركية.

 

عملية النقل رافقها، حسب الشهادة، “كم كبير من الصراخ والشتائم” تجاه الموقوفين، لا سيما أولئك الذين أظهروا ارتباكًا أو لم يلتزموا بالتعليمات حرفيًا. وخلال إجراءات التفتيش واستلام الأمانات، تكررت العبارات العنصرية، منها: “لماذا لا تعودون إلى بلادكم؟ لماذا أتيتم إلى تركيا؟”

 

كما أُشير إلى حادثة لافتة طالت أحد الموقوفين، وهو رجل خمسيني لا يتحدث التركية. أثناء محاولة استجوابه، وجّه إليه أحد عناصر الجندرما سؤالًا مسيئًا، طالبًا من شاهد يتحدث التركية الترجمة. وعند رفض الشاهد لما اعتبره سؤالًا غير لائق، تعرّض للتهديد بالضرب بعصا سوداء، وهو ما لم يُنفذ بسبب وجود كاميرات مراقبة في الممر.

تم نقله إلى أحد المهاجع في مركز ترحيل بإسطنبول، حيث وُضع في غرفة مع ثلاثة موقوفين آخرين من جنسيات عراقية ومصرية وتونسية. حين سألهم عن مدة احتجازهم، كانت الإجابات صادمة: تتراوح بين ثلاثة إلى خمسة أشهر دون محاكمة أو توضيح قانوني لوضعهم.

 

في صباح اليوم التالي، خرج المحتجزون إلى باحة المهجع، حيث تمكن الشاب من إجراء مكالمة هاتفية مع والدته ليخبرها بمكانه وبما مر به، مشيرًا إلى تكرار كلمة “ترحيل” في محيطه. أسرعت العائلة بتوكيل محامٍ، الذي طمأنه بأن الإجراءات لن تطول. لكن ما تلا ذلك كان بعيدًا عن كل تطمين.

 

بعد يومين في مركز إسطنبول، تم استدعاء أربعة سوريين، من ضمنهم الراوي، ونقلوا إلى ساحة داخلية حيث تم تسليمهم إلى عناصر من “الجندرما”، ليبدأوا رحلة مجهولة على متن حافلة مكبّلي الأيدي. الرحلة استغرقت 17 ساعة دون معرفة الوجهة، إلى أن أعلن أحد العناصر أنهم متجهون إلى ولاية أضنا.

 

في أضنا، تم نقلهم بين خمسة مستشفيات بهدف استخراج تقارير طبية تثبت عدم تعرضهم للضرب أثناء الرحلة، لكن الاكتظاظ حال دون ذلك. لاحقًا، وصلوا إلى مركز الترحيل في أطراف الولاية، حيث استقبلهم كم هائل من الصراخ والإهانات والعبارات العنصرية. رافق ذلك تفتيش قاسٍ، وضرب، وتوقيع على وثائق دون شرح، من بينها استمارات “العودة الطوعية إلى سوريا” التي رفض الراوي التوقيع عليها.

 

رفض التوقيع أدى إلى تهديدات صريحة: “سواء وقعت أو لم توقع، يمكننا ترحيلك، فأنت داخل مركز ترحيل”. استمر احتجازه في ظروف قاسية، داخل مهجع متسخ ومن دون أدنى حقوق الاتصال أو الحركة في البداية. لاحقًا، سُمح لهم بالخروج لفترة قصيرة جدًا، لكن الاتصال كان محدودًا جدًا نظرًا لعدد الموقوفين الكبير.

 

رغم إشاعات عن مقابلات مع مسؤولي الهجرة لتحديد مصير كل محتجز، بقي الراوي ومن معه من دون أي مقابلة حتى صباح الإثنين، حيث دخل غرفة تحقيق ضمّت ثلاثة أشخاص أحدهم مترجم. طُلب منه توقيع ورقة بيضاء، وعند رفضه، قوبل بالتهديد: إما التوقيع والترحيل “الطوعي”، أو الترحيل القسري مع منع دائم من دخول تركيا.

 

بعد أن رفض الانصياع للضغوط، أُعيد إلى المهجع، ثم شهد ترحيل 50 شخصًا من الذين قدموا معه من إسطنبول، بينما بقي هو وأربعة آخرون. نُقلوا لاحقًا إلى مهجع آخر يضم موقوفين من جنسيات مختلفة، منهم من أمضى قرابة 11 شهرًا في الاحتجاز.

 

يكشف الراوي أن السلطات تتبع نمطًا في تحويل الموقوفين من ولايات كإسطنبول وإزمير وبورصة إلى مركز أضنا، حيث يُعزل القادمون الجدد في مهاجع منفصلة لتقليل فرص التواصل وفهم الوضع القانوني. كثيرون يُرحلون بعد توقيعهم على استمارات تحت الضغوط، دون استشارة قانونية حقيقية، فيما يقاوم البعض الآخر رغم التهديدات.

 

على مدار قرابة ستة أشهر، بقي الشاب محتجزًا في مركز أضنا، يتعرض للإهانات والشتائم، في ظل تجاهل تام للمعايير الإنسانية، إلى أن تم الإفراج عنه ضمن ما وصفه المترجم بـ”عفو من إدارة الهجرة في أنقرة”. ورغم الإفراج، لم تنته القيود؛ إذ طُلب منه التوجه مرتين شهريًا إلى إدارة الهجرة للتوقيع كإجراء احترازي، مع التهديد بالترحيل القسري في حال الغياب عن التوقيع ثلاث مرات.

 

من التشرد إلى التحرير: رحلة العودة إلى الوطن بعد سنوات من التهديد بالترحيل

 

بعد الإفراج عنه من مركز الترحيل في ولاية أضنا، بدأ الشاب السوري مرحلة جديدة من المعاناة في ظل القيود الإدارية والبيروقراطية التي فرضت عليه بعد سحب بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) الخاصة به. في أول زيارة له إلى إدارة الهجرة من أجل توقيع الحضور الإجباري، طلب نقل توقيعه إلى إسطنبول، حيث كانت تقيم عائلته، وهناك صدر الكيملك الأصلي.

 

إلا أن جواب المسؤول جاء صادمًا: “بطاقتك سُحبت وتم إبطالها، ولم يعد لك أي قيد رسمي داخل تركيا”. أُبلغ أنه إن أراد نقل ملفه إلى إسطنبول، فعليه إثبات أن عائلته تقيم هناك بشكل قانوني. وبعد جهد كبير، جمع الشاب كل الأوراق المطلوبة وقدّمها، ليُقال له إنه سيُدرس طلبه خلال شهر، لأن إسطنبول تُعد “ولاية مغلقة أمام الأجانب”.

 

مرت نحو 20 يومًا دون رد. مع استمرار التشرد وعدم توفر مأوى أو دعم، قرر السفر إلى إسطنبول رغم المخاطر. رحلة العودة كلفته 200 دولار، وهي مبلغ كبير لشخص بلا وضع قانوني رسمي ولا مصادر دخل. لكنه لم ير بديلًا، خاصة في ظل الانقطاع الكامل عن الدعم أو المساعدة من أي جهة رسمية.

 

في إسطنبول، عاد إلى منزل عائلته ليعيش معها سرًا، متخفيًا من أعين السلطات، إلى أن جاءت اللحظة التي بدّلت كل شيء.

 

تحرير سوريا مثّل نقطة تحول مفصلية

 غادر إسطنبول نحو دمشق، ليؤمّن منزلًا لعائلته التي التحقت به بعد قرابة شهرين.

 

“تحرير سوريا كان فرحة لا توصف”، يقول الشاب. “الفرحة كانت مضاعفة، أولًا لأننا عدنا إلى أرضنا دون حكم الطاغية، وثانيًا لأن كابوس الترحيل والإهانة في تركيا انتهى أخيرًا”.

 

قصص أخرى من الظل: شريحة هاتف تقود شابًا سوريًا إلى الترحيل القسري

 

لا تقتصر معاناة المهاجرين السوريين في تركيا على من يتم احتجازهم بعد مداهمات أو شكاوى أمنية مباشرة، بل تتجاوز ذلك لتشمل حالات اعتقال تعسفي على خلفيات واهية، كما يروي الشاب السوري إحدى القصص التي طالت صديقه المقرّب “غيدق”، وهو شاب من مدينة دير الزور.

 

في إحدى الليالي، وخلال عودته من عمله، أوقف غيدق عند أحد الحواجز الأمنية وطلب منه المكوث لتقديم إفادة في المحكمة، دون توضيح السبب. بقي يومين في قسم الشرطة، ثم أُحيل إلى المحكمة، وهناك انكشف السبب الحقيقي: شخص مجهول كان قد اشترى شريحة هاتف باستخدام بيانات غيدق، وهو أمر شائع في تركيا نتيجة ضعف الرقابة على مبيعات الخطوط الهاتفية، حيث تُستخدم بيانات لا يعلم أصحابها في كثير من الأحيان.

 

ذلك الشخص استخدم الشريحة في عملية احتيال بسيطة تمثلت في بيع حساب للعبة إلكترونية (بوبجي) عبر الإنترنت، ثم استلام الأموال ورفض تسليم الحساب، ما دفع المشتري إلى تقديم شكوى ضد صاحب الرقم — الرقم الذي كان باسم غيدق.

 

ورغم وضوح الملابسات وعدم وجود أي دليل يربطه بالفعل، أُعيد غيدق إلى قسم الشرطة، ثم نُقل إلى مركز الترحيل في “أرناؤوط كوي” بمدينة إسطنبول، ومنه إلى ولاية غازي عنتاب. وهناك، بقي أسبوعًا في مركز الترحيل، دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه أو الحصول على تمثيل قانوني، قبل أن يُرحّل قسرًا إلى سوريا.

 

قصة غيدق، كغيرها من القصص، تسلط الضوء على هشاشة الوضع القانوني للسوريين في تركيا، حيث يمكن أن تؤدي أخطاء إدارية أو استغلال من أطراف مجهولة إلى إنهاء حياة بأكملها داخل الحدود التركية، دون محاكمة عادلة أو تحقيق شفاف.

مقال رأي|| “وقّع أو تُرحَّل”… قصة شاب سوري والوجه المظلم لمراكز الترحيل التركية

🔹 ملاحظة: هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر الوكالة

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية

شاركها.