– بيسان خلف

في شارع المتنبي، يتوسط مقهى “الكمال” أو ما يسميه زبائنه بـ”مقهى الفقراء”، الطريق بين سينما “الكندي” ومدرسة “جودت الهاشمي”، في قلب العاصمة دمشق.

المقهى الذي يبدو بسيطًا بطاولاته الصغيرة وكراسيه الخشبية القديمة، وكؤوس الشاي المتناثرة على الطاولات، كان شاهدًا على تحولات قرن مضى في سوريا وذاكرة حيه لمرتاديه من كبار السن والشباب، إذ تأسس في مطلع القرن الـ20، وكان من أكثر المقاهي شهرة في خمسينيات القرن الماضي، وملتقى للشباب السوري “المثقف” آنذاك.

هيكل المقهى يتكون من قسمين، قسم شتوي “مغلق” بشبابيك تطل على الشارع العام المجاور للمقهى، ولا يزال هذا القسم يحافظ على أسلوبه القديم من حيث الطاولات والكراسي و”سماور” الشاي المعلّق، وقسم صيفي “مكشوف”، بطاولات حجرية جانب “البحرة” ومقاعد خشبية على الطراز الدمشقي القديم.

مساحة للنقاش السياسي والثقافي

عاطف سكيكر (77 عامًا)، يروي ل ذكريات النشاط السياسي لوالده في ستينيات القرن الماضي الذي ارتبط بمقهى “الكمال”، ويقول، “كنا شبابًا متحمسين، أجلس وزملائي مع والدي وأصدقائه الذين كانوا أعضاء فعالين في الحزب (الشيوعي السوري) على ذات الكراسي المهترئة في (الكمال)، نسمع الأخبار والنقاشات السياسية، بعضها لا نفهمه، وبعضها الآخر شكّل ذاكرة لدينا”.

لكن ما انطبع في ذاكرة عاطف وزملائه هو رمزية المكان الذي كان مثالًا للطبقة الكادحة والفقراء، نظرًا إلى بساطته وأسعاره المنخفضة.

وما زال عاطف سكيكر يرتاد مقهى “الكمال” بشكل شبه يومي بعد تقاعده، للعب “طاولة الزهر” ولمناقشة الأوضاع التي تمر بها في سوريا مع أصدقائه من المتقاعدين، إذ أصبحت جلسته مع أصدقائه هناك أكثر من مجرد مساحة للترفيه لا يستطيع التخلي عنها.

وفي الفترة الممتدة بين الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي، أخذ مقهى “الكمال” مركزًا ثقافيًا وسياسيًا فعالًا، أسهم في تكوينه أبناء دمشق، الذين كانوا يرتادون المقهى لتبادل الآراء ووجهات النظر حول القضايا التي تمر بها سوريا، فكانت الحلقات الحزبية والندوات الثقافية حاضرة في “الكمال”، وفقًا للمؤرخ نعمان قساطلي.

وبحسب المؤرخ نعمان قساطلي في كتابه “الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء”، فإن الأديب معروف الأرناؤوط كتب روايته الشهيرة “سيد قريش” على طاولات مقهى “الكمال”.

من يرتاده

كان رواد مقهى “الكمال” في الماضي من كبار السن المتقاعدين، لكن أخذ شكل الرواد يتغير تدريجيًا، إذ أصبحوا من فئة الجيل الجديد، من الشباب والفتيات، إضافة إلى الكتاب والصحفيين وحتى المشاهير.

ورغم افتتاح العديد من المقاهي الحديثة وتغير نمط حياة الشباب السوري، لا تزال فئة من الشباب ترتاد المقهى، كما كان المقهى في الماضي حكرًا على الرجال، لكن النساء أيضًا يرتدنه، ما يعكس تغيرًا في الأنماط الاجتماعية ضمن المجتمع السوري.

رنا الحلبي من رواد مقهى “الكمال”، ترى أنه ليس مجرد مقهى بل “صندوق ذكريات سوريا”، وإرث مثقفي الجيل الماضي الذي يجب على الجيل الجديد أن يحافظ عليه، خاصة في هذه الفترة التي تشهد فيها سوريا إعمارًا يواكب الدول المتطورة، وفق تعبيرها.

“التطور لا يعني مسح الماضي، (الكمال) هو ذاكرة مثقفي سوريا، كل طاولة فيه شهدت ولادة فكرة، وكل زاوية تحكي قصة في تاريخ سوريا”، قالت رنا الحلبي (27 عامًا).

تأمل رنا بعد سقوط النظام في سوريا أن يعود المقهى مركزًا للنشاط السياسي والثقافي، بدلًا من لعب النرد والورق، إذ ترى أن المرحلة التي تعيشها سوريا الآن تشبه إلى حد ما فترة ما قبل عائلة الأسد، من حيث ممارسة النشاط السياسي.

مقهى “الفقراء”

يحتفظ مقهى “الكمال” بأسعاره المتواضعة، رغم ارتفاع الأسعار والتضخم الاقتصادي، إذ يعتبر من أرخص المقاهي في سوريا، ولا يتجاوز سعر المشروبات فيه 15000 ليرة سورية (1.5 دولار أمريكي).

وعلى الرغم من أسعاره المنخفضة، يحتفظ “الكمال” أيضًا بجودة ما يقدمه إضافة إلى تقديمه للمشروبات الغازية بعبوات زجاجية (مثل الكولا والجلاب والبرتقال) رغم اختفائها من الأسواق السورية منذ سنوات، لكنها مطلوبة بشكل كبير من قبل رواد المقهى، إضافة إلى نرجيلة “التنباك” التي لا تقدم إلا في “الكمال”.

واتفق كل من عاطف سكيكر ورنا الحلبي على أن التوازن بين جودة ما يقدمه “الكمال” للرواد والتكلفة المنخفضة هو ما جعله مقهى “الفقراء” أو “مقهى الطبقة الكادحة”.

ويرى عاطف سكيكر أن “(الكمال) ليس فقيرًا من حيث القيمة، بل هو غني بتاريخه وعراقته، إضافة إلى القصص والذكريات بين جدرانه، والروايات التي كُتبت فيه والنقاشات التي دارت بهدوء وانتهت باقتناع أو اختلاف محترم”.

كما يأمل كل من عاطف ورنا ألا يلاقي “الكمال” مصيرًا يشبه مصير مقهى “الحجاز” التاريخي الذي أصدر النظام السوري السابق قرارًا بهدمه في عام 2021، من أجل تنفيذ مشروع سياحي يتضمن فندقًا على أرض المقهى.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.