عاد المئات من العائلات المهجّرة قسرًا من أبناء جنوب العاصمة دمشق، وتحديدًا من أحياء القابون والمخيم وجوبر والزبلطاني، إلى مدينتهم بعد غربة استمرت سنوات في مخيمات الشمال السوري، خاصة في إدلب وريف حلب، ومع أن مشهد العودة كان حافلاً بالأمل، إلا أن الواقع المرير الذي واجهوه بعد العودة سرعان ما بدّده.
العائدون صُدموا بدمار شبه كامل لمنازلهم وأحيائهم، فالمعارك والقصف الجوي العنيف الذي تعرضت له مناطقهم خلال سنوات الثورة السورية، حولها إلى أطلال، وأتلف البنية التحتية، ولم يترك لهم شيئًا يصلح للحياة أو حتى للسكن المؤقت.
مساكن الديماس: ملاذ مؤقت للعائدين… مهدد بالإخلاء
في ظل هذا الواقع، لجأت تلك العائلات إلى التواصل مع جهات رسمية في حكومة دمشق، وقد تم التوصل إلى اتفاق غير معلن بين وجهاء الأحياء ووزارتي الدفاع والداخلية، يقضي بالسماح للعائلات بالسكن مؤقتًا في مساكن الديماس، وهي تجمع سكني عسكري خارج دمشق، كان مخصصًا سابقًا لعناصر جيش النظام، الذين أخلوا المكان بعد سقوطه وتغير المشهد العسكري في البلاد.
وبحسب معلومات حصلت عليها وكالة “ستيب نيوز“، فقد تم التنسيق عبر لجنة حي القابون والمختار بالمنطقة، بالإضافة إلى التنسيق مع مكاتب أمنية كـ”الأمن الداخلي” و”الأمن العام”، وتم تخصيص شقة لكل عائلة، مع أولوية لمن لا يملكون بيوتًا نهائيًا، أو من تعرضت مساكنهم لأضرار جسيمة.
العائلات اعتبرت هذا الحل إيواءً مؤقتًا ريثما تتمكن الحكومة من إعادة إعمار المناطق المدمرة، وقد بدأ بعضهم بالفعل بنقل أطفاله إلى المدارس في منطقة الديماس، فيما قرر آخرون التريث لحين نهاية العام الدراسي.
بداية التهديدات غير الرسمية
مرت الشهور الأولى دون إنذارات رسمية، إلا أن إشارات بدأت تتسرب من بعض المسؤولين المحليين حول نية الدولة إخلاء هذه المساكن، وكانت العبارات غير مباشرة ولكنها واضحة.
ويقول أحد الأهالي الذي فضّل عدم ذكر اسمه: “بدو يطالعوكن، بدو يطالعوكن”… تكررت على ألسنة عدة موظفين ومطلعين في المنطقة، دون أن يصرّح أحد منهم بموعد أو آلية الإخلاء”.
وفي أول أيام عيد الفطر، وبينما كان الأهالي يحيون طقوس العيد الحزينة، وصلت إشعارات إخلاء إلى عشرات الشقق، دون تنبيه مسبق أو حتى طرق الأبواب، حيث أفاد شهود عيان أن سيارة تابعة لإحدى الجهات الرسمية توقفت أمام المباني، ونزل منها عناصر قاموا بلصق الأوراق على الأبواب بسرعة، قبل مغادرتهم دون أن يكلّفوا أنفسهم إبلاغ السكان مباشرة.
شهادة أحد السكان: “نحن لا نملك بديلًا”
في حديث خاص لوكالة “ستيب نيوز“، أفاد أحد سكان مساكن الديماس، وهو أحد وجهاء حي القابون، فضّل عدم ذكر اسمه، قائلاً: “كنا نعتقد أن الحكومة تدرك جيدًا أننا نعيش في هذه المساكن بشكل مؤقت، وليس لدينا أي بديل… منازلنا في القابون والمخيم مدمّرة بالكامل، وبعضنا فقد أوراقه الثبوتية، ولا نملك أي قدرة على دفع إيجارات، خصوصًا أن أقل بيت في دمشق اليوم يحتاج أكثر من 500 ألف ليرة شهريًا، وبعض المنازل تُؤجّر بالدولار وبأسعار خيالية.”
وأضاف: “ذهبت لأتفقد البناية المجاورة لي، فوجدت أن هناك من لم تصله إنذارات، خاصة أولئك الذين كانوا ينتمون لجيش النظام أو ما يعرف بفلول النظام… بينما نحن المهجّرين منذ 10 سنوات يُطلب منا الإخلاء فورًا! أي عدالة هذه؟”
ويتابع المصدر: “هناك تمييز واضح. نعرف من يسكن فوقنا، ومن لم تصله ورقة إخلاء، بينما نحن نُطرد بلا سابق إنذار، ولا حتى مبرر واضح”
تقاسم المساكن بين الوزارات
وفقًا لمصدر مطلع، فإن مساكن الديماس قد جرى تقاسمها بعد تحرير دمشق على الشكل التالي: وزارة الدفاع: 60٪ (كونها المالك الرسمي)، وزارة الداخلية: 20٪، بقية الوزارات: 20٪
كما جرى إعادة ترقيم الشقق والأبنية أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية، فيما يبدو أنه تمهيد لإعادة تخصيصها ضمن ترتيبات إدارية جديدة، مما عزز مخاوف الأهالي من فقدان هذا الملاذ الأخير.
ظروف معيشية خانقة
يعيش النازحون في الديماس أوضاعًا معيشية قاسية، حيث تتضاعف معاناتهم مع كل يوم جديد في ظل الغلاء الكبير، وعدم توفر فرص عمل، وارتفاع أسعار الإيجارات.
ويؤكد بعضهم أن كثيرًا من العائلات اضطرت لدفع مبالغ كبيرة بالدولار في الليلة خلال الأشهر الأولى من عودتهم، فقط لتأمين مأوى مؤقت في دمشق.
وقد لجأت معظم العائلات إلى بيع ما تبقى من مدخراتهم، بل واقترض بعضهم مبالغ مالية ضخمة لإيجاد مأوى، قبل أن يفاجأوا بالتهديدات الحالية بالإخلاء.
مطالب الأهالي
يطالب الأهالي، عبر وكالة “ستيب”، بـ: “وقف الإخلاء القسري الفوري من مساكن الديماس، وتخصيص مساكن بديلة للعائلات التي لا تمتلك مأوى، وإشراك لجان الحي والوجهاء في أي قرار مصيري يتعلق بمصير السكان، والكشف عن المعايير التي يتم بناءً عليها توزيع الشقق أو اتخاذ قرارات الإخلاء، إضافة إلى الإسراع بإعادة إعمار المناطق الأصلية لتلك العائلات، وخاصة القابون والمخيم”.
وبين دمار الأحياء الأصلية، وضيق السكن المؤقت، وتهديدات الإخلاء المفاجئة، يعيش المئات من العائلات العائدة إلى دمشق في مأزق وجودي حقيقي، فهم لا يملكون مأوى آخر، ولا يملكون صوتًا قويًا داخل المؤسسات الحكومية.
وبينما تبقى مساكن الديماس هي الملاذ الأخير لهؤلاء، فإن استمرار قرارات الإخلاء دون بدائل، سيؤدي إلى كارثة إنسانية جديدة في العاصمة، لا تقل مأساوية عن تهجيرهم الأول، فهل تتحرك الجهات المعنية قبل أن يُترك هؤلاء في الشارع؟
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية