اختتمت، في العاصمة السعودية الرياض، فعاليات الدورة الثالثة من منتدى الأفلام السعودي، التي أُقيمت بين 22 و25 أكتوبر تحت عنوان “آفاق جديدة للتمكين والاستثمار”.

وبدا واضحاً أن المنتدى عزز موقعه كأحد أبرز الملتقيات السينمائية في المنطقة، ليس فقط من حيث حجم المشاركة وتنوع الفعاليات، بل أيضاً من حيث عمق النقاشات التي تناولت حاضر ومستقبل الصناعة السينمائية في المملكة والعالم العربي.

تميزت هذه الدورة بغنى برنامجها وتنوّع فضاءاتها، إذ شملت مسابقة التصوير السينمائي الجوي، ومعرض مسك للفنون، ومنطقة المواهب، ومنطقة التقنية والابتكار، وبودكاست الأفلام، ومنطقة الأطفال، ومساحة الأعمال، وجداريات المنتدى، إلى جانب المسابقة المفتوحة للأفلام القصيرة ومسابقة أفضل تصميم جناح.

أما البرنامج الحواري، فكان الأوسع والأكثر عمقاً منذ انطلاق المنتدى، وتناول موضوعات الاستثمار والتمويل السينمائي، ودور الجهات الوطنية في تمكين الصناعة، وقضايا الملكية الفكرية والأرشفة وحفظ الهوية البصرية.

كما ناقش استخدامات الذكاء الاصطناعي في مراحل الإنتاج وما بعدها، ودور القطاع غير الربحي في دعم البرامج السينمائية، إلى جانب مسارات تنمية المواهب والبرامج الأكاديمية في الجامعات السعودية.

وشهدت الجلسات حضور أسماء بارزة من داخل المملكة وخارجها، من بينهم النجم العالمي جوني ديب، الذي قدم جلسة حوارية بعنوان “عبقرية تجسيد الأدوار المختلفة” أدارتها المخرجة والممثلة السعودية فاطمة البنوي، حيث تحدث عن تجربته الطويلة في التمثيل ورؤيته لبناء الشخصية السينمائية خلال أربعة عقود من العمل في هوليوود.

نحو صناعة وطنية متكاملة

يواصل المنتدى ترسيخ مكانته كحدث وطني ودولي، يُعبّر عن طموح المملكة في بناء صناعة سينمائية متكاملة ومستدامة، فالحدث لم يقتصر على عرض الأفكار والمشاريع، بل مثل جسراً للتواصل بين المواهب الشابة والمؤسسات الإنتاجية، ومنصة لتبادل الخبرات مع خبراء الصناعة العالميين.

ومع تنامي حضور المملكة على الساحة السينمائية الدولية، برهن المنتدى على التزام السعودية بمستقبل ثقافي وإبداعي يواكب رؤية 2030، حيث تمثّل السينما أداة للتعبير والتنوير وجسراً حضارياً يروي للعالم قصص هذه الأرض وإنسانها بلغة الفن والصورة.

وتنوعت مناطق المعرض المصاحب للمنتدى بين مساحات مهنية وتعليمية وتفاعلية؛ فكانت منطقة الأعمال منصة لعقد الاتفاقيات وإبرام الشراكات، بينما قدمت منطقة الاستشارات الإرشادات في مجالات التمويل والإنتاج، إلى جانب منصة لتسجيل أصحاب المهن الحرة وربطهم بالشركات المنتجة.

كما أتاح ركن التجارب الحيّة للزوار خوض تجربة محاكاة أجواء تصوير الأفلام، عبر أداء أدوار الممثل والمصور والمخرج داخل بيئة سينمائية واقعية.

“لقاء يغير المشهد”

في دورته الثالثة، بدا المنتدى أكثر اكتمالًا من أي وقت مضى، وهو ما أكّده الكاتب والمخرج عبدالله آل عيّاف، المدير التنفيذي لهيئة الأفلام، في حديثه لـ”الشرق” عن خصوصية النسخة الجديدة، قائلاً: “شعار الدورة الحالية (لقاءٌ يغيّر المشهد) لا يعبّر تمامًا عن المرحلة التي بلغها المنتدى، نحن نُكمل ما بدأناه في الدورتين السابقتين، لكن مع قفزة نوعية واضحة، لدينا أكثر من 135 عارضاً من 35 دولة، و60 متحدثاً في المؤتمر، أكثر من 50 ورشة عمل، فتحنا مجالات جديدة مثل المشاركة المجتمعية، ووسّعنا البرنامج ليشمل سلسلة القيمة السينمائية بالكامل: من الملكية الفكرية والحقوق القانونية إلى الذكاء الاصطناعي والإنتاج والتوزيع، ودور الجهات الحكومية والقطاعين الخاص وغير الربحي في دعم منظومة الصناعة السينمائية. باختصار، أردنا أن يكون المنتدى قبلة لصناعة الأفلام في الشرق الأوسط، والنتائج التي نراها اليوم مبشّرة ومُلهمة”.

أرقام وطموحات

حين يتحدث آل عيّاف عن المشهد السينمائي السعودي، تبرز لغة الأرقام كدليل حيّ على التحوّل الكبير الذي شهدته المملكة في وقت قياسي، إذ يقول: “في ظل رؤية السعودية 2030، حقّق السوق السينمائي نتائج استثنائية، قبل سنوات قليلة لم تكن هناك صالات عرض، أما اليوم فقد أصبحت المملكة أكبر سوق للأفلام في الشرق الأوسط. ارتفع عدد التذاكر المباعة من 6.5 ملايين في عام 2020 إلى أكثر من 17.5 مليون حتى اليوم، بإجمالي مبيعات تجاوز خمسة مليارات ريال، كما شهدت الأفلام السعودية قفزة نوعية، إذ حققت في عام 2020 نحو 13 مليون ريال، بينما بلغت هذا العام أكثر من 120 مليوناً، ثلاثة من بين خمسة أفلام هي الأكثر ربحية في 2025 سعودية، وهذا بحد ذاته دليل على ثقة الجمهور المحلي بصناع الفيلم السعودي”.

وأضاف أن هذا النمو لم يكن ليتحقق لولا الدعم المؤسسي الكبير الذي تحظى به الصناعة من القيادة، وجهود هيئة الأفلام في التمكين والتدريب، فضلاً عن حضور جيل جديد من المبدعين أثبتوا جدارتهم في الإخراج والكتابة والإنتاج.

وتابع: “اليوم نرى صنّاع أفلام سعوديين يقدّمون أعمالاً تنافس على مستوى المحتوى والصورة والإنتاج. هناك نقلة نوعية في الكتابة البصرية، وفي اختيار الموضوعات والحسّ الجمالي الذي يعبّر عن روح المكان والإنسان، وهذا التطور ليس صدفة، بل ثمرة رؤية بعيدة المدى تؤمن بأن السينما جزء من الهوية الثقافية الوطنية”.

من المحلي إلى العالمي

لم يعد الحراك السينمائي السعودي محصورًا داخل الحدود الوطنية، إذ أصبح المشهد يتّسع تدريجيًا نحو العالمية. ويؤكّد آل عيّاف أن المنتدى حرص هذا العام على مدّ الجسور مع المستثمرين وصنّاع الأفلام من الخارج، وفتح السوق السعودي أمام الشراكات الدولية والإنتاج المشترك.

“السوق السعودي سوق واعد ومليء بالفرص. سعينا إلى تمكين المستثمرين الأجانب وتشجيعهم على المشاركة، لدينا ضيوف من كبار صُنّاع السينما حول العالم، مثل النجم جوني ديب، إلى جانب شركات تقنية ومستثمرين في المحتوى المرئي، وقد وجد الجميع في المملكة بيئة جاذبة ومحفّزة على الإبداع”.

وأضاف: “السينما لغة عالمية تتجاوز الحواجز، ونحن نوجه رسالة مفتوحة إلى العالم: مرحباً بكم في السوق السعودي، حيث تتقاطع الثقافة مع الاستثمار، والإبداع مع التقنية، والفرص من دون حدود”.

تمكين المواهب وصناعة المستقبل

يعد الاستثمار في الإنسان المبدع أحد أهم ركائز المنتدى، ويؤكد آل عياف أن المنتدى فتح هذا العام مسارات متعددة للمواهب الجديدة، سواء عبر البرامج الأكاديمية أو ورش العمل المتخصصة، أو عبر التواصل المباشر بين المبدعين والمنتجين في منطقة الأعمال، “ما نحاول صنعه اليوم هو بيئة مستدامة للمبدعين السعوديين، كل ما نقدّمه من برامج ودعم يصبّ في مصلحة الفيلم وصانعه، طموحنا دائماً أن نكون أفضل وأكبر وأسرع، ما دام الدعم موجوداً والرؤية واضحة والمبدعون مؤمنين بهذا المشروع، فالمستقبل بإذن الله سيكون أكثر إشراقاً”.

ويضيف: “نحن لا نريد فقط أن ننتج أفلاماً، بل أن ننتج ثقة بالمستقبل، وأن نكرس حضوراً سعودياً فاعلاً في السينما العالمية، هذه هي الغاية التي نعمل من أجلها، وهذا ما نلمسه بالفعل من إقبال الجمهور وتفاعل العالم مع التجربة السعودية”.

صورة للرؤية الثقافية 

يمثل منتدى الأفلام السعودي نموذجاً مصغراً عن التحوّل الثقافي والفني الذي تعيشه المملكة ضمن رؤية 2030، فهو لا يقتصر على الجانب المهني للصناعة، بل يقدم بعداً اجتماعياً وثقافياً، إذ يعيد تعريف العلاقة بين المجتمع والفن، وبين المواطن وشاشته، وبين الهوية الوطنية وصورتها في العالم.

ويشير آل عيّاف إلى أنّ المنتدى أصبح ملتقى سنوياً تتقاطع فيه الطموحات والابتكارات، حيث يلتقي المبدعون والمنتجون والطلاب والأكاديميون في فضاء واحد يتجاوز العروض إلى التفكير في المستقبل، “نلمس في كل دورة نضجًا أكبر في الحوار وتنوّعًا في الرؤى، ولم يعُد المنتدى فعالية عابرة، بل مؤسسة متكاملة تجمع عناصر المنظومة السينمائية في مكان واحد. فهذا اللقاء السنوي مرآة لما وصلت إليه الصناعة، ودفعة قوية لما يمكن أن يتحقق في السنوات القادمة”.

رؤية تمتد إلى ما وراء الشاشة

في ختام المنتدى، بدا المشهد في الرياض وكأنه يختصر قصة بلد يكتب فصلاً جديدًا في تاريخه الثقافي، فمن صالات العرض إلى المنصات العالمية، ومن المواهب الشابة إلى الأسماء اللامعة، تتكامل الصورة لتعكس حراكاً سينمائياً سعودياً حياً ومتجدداً.

ويؤكد آل عيّاف أن المنتدى “أصبح واجهة حضارية تعبّر عن تحول المملكة إلى مركز إقليمي لصناعة المحتوى المرئي والمسموع، وعن رغبتها في أن تكون السينما جزءاً من مشروعها الثقافي الأشمل”.

ويختم بقوله: “ليس ما تحقق حتى الآن إلا بداية الطريق. الأهم أن نستمر في البناء، وأن نحافظ على هذا الزخم من الإبداع والحماس، طالما أن هناك جمهوراً يثق بفيلمه المحلي، ومبدعين يصنعون بأيديهم هذا المستقبل، فإن الصناعة السعودية ماضية بثقة نحو موقعها المستحق في خريطة السينما العالمية”.

شاركها.