– مارينا مرهج

أطلق الجهاز المركزي للرقابة المالية في سوريا، في أيلول الماضي، منصته الإلكترونية لتلقي الشكاوى، لتمكين المواطنين من الإسهام في حماية المال العام، وتعزيز تطبيق القوانين المتعلقة بالرقابة والمحاسبة.

وتعاني سوريا منذ عقود انعدام الشفافية وانتشار الفساد في إدارة المال العام، وهو ما يخشى كثيرون استمراره في عهد الإدارة الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، إذ يثار اللغط حول مشاريع يجري تنفيذها دون شفافية في مختلف القطاعات، ما يحمل معه شبه فساد وسوء إدارة المال العام.

من الناحية القانونية، تعزز المنصة، بحسب رأي قانوني، سيادة القانون وتكرس مبادئ الشفافية والمساءلة، وتشكل أداة لتفعيل المادة “27” من الدستور السوري التي تنص على أن حماية المال العام واجب على الدولة والمجتمع.

المنصة فتحت أمام السوريين نافذة جديدة للرقابة المجتمعية على المال العام، إذ تتيح لهم المشاركة المباشرة في متابعة الموارد العامة والإبلاغ عن أي مخالفات مالية أو إدارية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة ضمن إطار التحول الرقمي، وتؤكد حق المواطن في تقديم الشكاوى والتظلم بطريقة رسمية وآمنة.

خطوة لتوسيع الرقابة المجتمعية

الهدف من إطلاق المنصة الإلكترونية للشكاوى، هو توسيع قاعدة المشاركة المجتمعية في الرقابة على المال العام، عبر تمكين المواطنين من الإسهام المباشر في متابعة استخدام الموارد العامة والإبلاغ عن أي مخالفات، بما يعزز شعورهم بالشراكة والمسؤولية تجاه المال العام، بحسب ما قاله نائب رئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية، وسيم المنصور، في حديث إلى.

كما تهدف المنصة إلى توحيد قنوات استقبال الشكاوى وتطوير عمل الجهاز الرقابي ضمن إطار التحول الرقمي، وتعزيز أدوات الرقابة الحديثة لتسهيل استقبال الشكاوى ومتابعتها بسرعة وكفاءة، وذلك ضمن نهج إصلاحي طويل الأمد يسعى لتحديث منظومة العمل الرقابي وتعزيز الشفافية والمساءلة، دون ارتباط بمرحلة سياسية معيّنة أو زمن محدد.

وفيما يتعلق باختلاف المنصة عن الطرق التقليدية السابقة، أشار المنصور إلى أنها رقمية بالكامل، ما يجعل عملية التقديم والمتابعة أسهل وأكثر سرعة، مشيرًا أنها تشمل جميع الجهات التي تتعامل مع المال العام، من وزارات ومؤسسات ووحدات إدارية ومشاريع ممولة من الدولة، دون استثناء.

وبيّن أن الجهاز خصص فريقًا داخل الجهاز المركزي للرقابة المالية لاستقبال الشكاوى ودراستها ومتابعتها ميدانيًا، موضحًا أن الفريق يتمتع بخبرة رقابية وإدارية، ويعمل وفق آلية زمنية محددة لضمان سرعة الرد ودقة المعالجة ومنع تراكم الملفات.

وفيما يخص حماية هوية المشتكين وسرية المعلومات، أكد المنصور أن المنصة تعتمد ضمانات عالية المستوى لحماية البيانات الشخصية، مشيرًا إلى أن الخصوصية مبدأ أساسي يتم تطبيقه في جميع مراحل تقديم الشكوى ومعالجتها، عبر استخدام بروتوكولات أمان إلكترونية مشددة، وعدم الإفصاح عن أي معلومات تخص المشتكي إلا في الإطار القانوني اللازم للتحقيق.

وأضاف أن المشتكي يزود بعد تقديم شكواه برقم متابعة خاص يتيح له تتبع مسار الشكوى من خلال أيقونة “تتبع الشكوى” في المنصة، ما يعزز الشفافية ويشجع المواطنين على التفاعل المستمر.

وأكد نائب رئيس الجهاز أن تقديم الشكاوى مجاني تمامًا، ولا تترتب على المشتكي أي التزامات مادية، إذ تهدف المنصة إلى تشجيع المواطنين على الإبلاغ عن المخالفات المالية والإدارية دون حواجز مادية أو إجرائية، معتبرًا أن المشاركة في حماية المال العام حق وواجب وطني.

وأوضح أن الشكاوى تمر بعد وصولها بمرحلة تدقيق أولي للتحقق من الجدية وصحة المعلومات، قبل إحالتها إلى الجهات المختصة داخل الجهاز للتحقق الميداني بحسب طبيعتها، ضمن مسار رقابي منظم يعتمد على الأدلة ويخضع لإشراف إداري وقانوني لضمان الحياد والموضوعية في اتخاذ القرارات.

وعن العلاقة مع الجهات القضائية، أوضح أن القائمين على المنصة لا يرتبطون مباشرة بالجهات القضائية، إذ يقتصر دورهم على استقبال الشكاوى وتتبعها وإيصالها للإدارة المختصة داخل الجهاز، التي تتولى التدقيق والفحص الميداني، وفي حال ثبوت المخالفة، تُحال القضايا إلى الجهات القضائية لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

وختم المنصور حديثه بالتأكيد على أن المنصة تمثل نقلة نوعية في العلاقة بين المواطن والجهاز الرقابي، إذ تمنح المواطن وسيلة مباشرة وآمنة للإبلاغ عن شبهات الفساد، ما يحوّله من مجرد متلقٍ للقرارات إلى شريك فعّال في الرقابة، ويعزز مفهوم المشاركة المجتمعية في مكافحة الفساد المالي والإداري.

تعزيز سيادة القانون ومكافحة الفساد

أكد المحامي عدي الشوا، في حديث إلى، أن إطلاق منصة الشكاوى من قبل الجهاز المركزي للرقابة المالية في سوريا يُعد خطوة ذات أهمية كبيرة من الناحية القانونية، لما تحمله من أبعاد تعزز سيادة القانون وتكرّس مبادئ الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام.

فالمنصة، بحسب الشوا، تمكن المواطنين من الإبلاغ عن المخالفات المالية والإدارية، ما يعزز الرقابة الشعبية ويسهم في تطبيق القوانين المتعلقة بحماية المال العام، كما تعد أداة لتفعيل المادة “27” من الدستور السوري التي تنص على أن حماية المال العام تعد واجبًا على الدولة والمجتمع.

وتكرّس المنصة في الوقت ذاته الحق الدستوري للمواطنين في تقديم الشكاوى والتظلّم، وهو حق مكفول بموجب القوانين السورية، وفقًا للمحامي عدي الشوا، إذ توفر وسيلة رسمية وآمنة لتقديم الشكاوى ضد الجهات العامة أو الموظفين المتورطين في الفساد أو الهدر المالي.

وأشار إلى أن كل شكوى تسجل إلكترونيًا وتمنح رقمًا مرجعيًا، ما يجعلها دليلًا قانونيًا يمكن الرجوع إليه لاحقًا في حال تطلب الأمر تحقيقًا أو مساءلة، وهو ما يسهم في حماية المبلّغين ويقلل من احتمالات التلاعب أو الإهمال في معالجة الشكاوى.

ولفت إلى أن التزام المنصة بمبدأ السرية التامة يمثل عنصرًا جوهريًا من الناحية القانونية لحماية المبلّغين من أي تبعات أو انتقام، ويتماشى مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد، وفي مقدمتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صدّقت عليها سوريا.

المنصة تتيح للجهات الرقابية فتح تحقيقات رسمية بناء على الشكاوى المقدّمة، مما يسهم في ملاحقة الفاسدين قانونيًا، وتعد بذلك أداة داعمة لعمل القضاء والنيابة العامة في ملاحقة الجرائم الاقتصادية وتعزيز مبدأ المساءلة والمحاسبة، بحسب المحامي الشوا.

“تكسر حاجز الصمت”

المنصات الإلكترونية تعد أداة محورية في تعزيز ثقافة الشكوى لدى المواطن السوري، إذ تسهم في “كسر حاجز الخوف والصمت” من خلال تمكين الأفراد من تقديم شكاواهم دون مواجهة مباشرة، ما يشجع على الإبلاغ عن الفساد والتجاوزات، وفق المحامي عدي الشوا.

كما تجعل المواطن شريكًا فاعلًا في الرقابة على المال العام، وتسهم في نشر ثقافة الحقوق والمسؤوليات من خلال ترسيخ فكرة أن الشكوى ليست تمردًا بل ممارسة قانونية مشروعة.

وأوضح الشوا أنه من الناحية القانونية، فإن استخدام أوراق العمل لإثبات الشكوى لا يعد تسريبًا ما لم تتضمن الوثائق معلومات سرية أو محمية قانونًا، إذ يمكن اعتمادها كأدلة في حال كانت عامة أو متاحة، ويستثنى من ذلك الوثائق المصنفة “داخلية” أو “سرية”، أو تلك التي جرى الحصول عليها بطرق غير مشروعة مثل كسر كلمات المرور أو التصوير دون إذن.

وشدد على أن الحل القانوني الآمن يتمثل في تقديم الوثائق عبر المنصات الرسمية التي تضمن السرية، أو طلب إذن قانوني من جهة العمل عند الحاجة.

وأكد أن هذه المنصات تسهل العمل القضائي عبر توثيق الوقائع إلكترونيًا بما يشكل دليلًا قانونيًا، ويساعد على فرز القضايا قبل وصولها إلى المحاكم، ما يمكن الجهات الرقابية من حل بعضها إداريًا، كما تسهم في تسريع التحقيقات من خلال تزويد المواطن بالأدلة مبكرًا، وتمكن من كشف الأنماط المتكررة في الشكاوى ضد جهة أو موظف معين لبناء ملفات متكاملة.

وتعد هذه الخطوات قادرة على إعادة ثقة المواطن بالقانون والمحاسبة إذا توفرت الشفافية في معالجة الشكاوى، وسرعة الرد، والمحاسبة الفعلية التي تُفضي إلى نتائج ملموسة كالإعفاء أو المحاكمة أو استرداد المال العام، وفقًا للمحامي عدي الشوا، محذرًا في الوقت نفسه من أن تحول هذه المنصات إلى أدوات شكلية غير فعالة تعمق الشعور بالإحباط بدلًا من معالجة المشكلة.

وخلص الشوا إلى أن هذه الآليات تشكل تهديدًا مباشرًا للفاسدين، لأنها تكسر احتكار المعلومات وتتيح للمواطن التبليغ دون وساطة أو نفوذ، كما تجعل الوصول إليها سهلًا ومتاحًا للجميع، ومع تراكم الأدلة الرقمية التي تصعب التلاعب أو الإنكار، تستطيع الجهات الرقابية تتبع المخالفين وملاحقتهم قانونيًا حتى دون انتظار بلاغ رسمي من جهة العمل.

قضايا فساد تم الكشف عنها

أظهرت تحقيقات الجهاز المركزي للرقابة المالية، في آب الماضي، فسادًا ممنهجًا في زمن النظام السابق، ترتبت عليه آثار مالية تجاوزت وفق التحقيقات الأولية مئات الملايين من الدولارات الأمريكية.

وذكر نائب رئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية، وسيم المنصور، أنه تم تسلم مئات ملفات الفساد التي نجمت عنها أضرار جسيمة بالمال العام، وتورط فيها مسؤولون من حكومة النظام السابق، ما استدعى تشكيل ما يزيد على 80 لجنة تحقيق متخصصة في هذه الملفات.

وأكد أن التحقيقات أظهرت أن الفساد كان منظمًا ومترسخًا في قطاعات لها علاقة مباشرة بمعيشة المواطنين.

وفي تموز الماضي، تمكن الجهاز المركزي للرقابة المالي من الكشف عن تجاوزات جسيمة في بعض الجهات العامة، وأثبتت التحقيقات تورط عدد من المسؤولين السابقين في استغلال النفوذ وتلقي رشى والإضرار بالمال العام.

وكشفت “الرقابة المالية” في منشور لها عبر معرفاتها، أنه من بين المتورطين، الأمين العام السابق لرئاسة مجلس الوزراء “ق. خ.”، والمدير العام السابق للمؤسسة العامة للصناعات الكيماوية “أ. أ. ف.”، ومدير مديرية أنظمة الدفع الإلكتروني في مصرف سوريا المركزي “ع. ر.”.

واستندت نتائج التحقيق إلى تقارير تمهيدية أعدها الجهاز بعد مراجعة شاملة للوثائق والمعطيات وجمع الأدلة من مصادر متعددة، إذ وصل مبلغ الضرر في المال العام إلى أكثر من نصف مليار دولار أمريكي، وتم ذلك في ظروف تفتقر إلى الشفافية وتخالف القوانين والأنظمة.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.