منذ اللحظة الأولى التي اكتشف فيها المصري القديم، كيف يحوّل نبات البردي إلى أوّل ورقة عرفتها البشرية، بدأت حكاية جديدة للإنسان مع الذاكرة.
أبدع الفنانون القدماء في تدوين يومياتهم ومشاعرهم وانتصاراتهم وأفكارهم على ورق البردي. انتشرت زراعته في مختلف ربوع مصر، وأصبحت تلك الورقة حلقة الوصل بين الماضي والحاضر.
تلك الرؤية كانت محور معرض “من البردي الأخضر إلى الفن الخالد”، الذي يستضيفه المتحف المصري بالتحرير منذ الأول من ديسمبر، وتنظمه مؤسسة المنتدى الدولي للفن من أجل التنمية، بالتعاون مع منظمة اليونسكو.
يشارك في المعرض 80 فناناً تشكيلياً، أبدعوا في تخليد الورق البردي برؤية معاصرة. وشهد حفل الافتتاح حضور عدد من الشخصيات العامة والفنانين، وألقى عدد منهم كلمات عن أهمية هذا التراث ودوره في تشكيل الذاكرة المصرية.
وأوضح الدكتور علي عبد الحليم، مدير عام المتحف المصري بالتحرير، أن المعرض “يختص بنبات البردي بوصفه أحد أهم وأقدم رموز الهوية والحضارة المصرية القديمة”.
واستعرض الدور التاريخي الذي لعبه، “باعتباره مادة أساسية للكتابة والمعرفة، وكيف تحوّل في العصر الحديث إلى مصدر إلهام للفنون المعاصرة حول العالم”.
وأكدت الدكتورة نوريا سانز، مديرة المكتب الإقليمي لليونسكو في مصر والسودان، على اهتمام اليونسكو بالبردي المصري “باعتباره جزءاً أصيلاً من التراث الإنساني”. وأشارت إلى جهود المنظمة في دعم تسجيل عناصر التراث غير المادي المرتبطة به.
ويحظى هذا الحدث، برعاية رسمية من وزارات السياحة والآثار والثقافة والتضامن الاجتماعي والبيئة، فضلاً عن الهيئة المصرية العامة للتنشيط السياحي، وبدعم رئيسي من البنك التجاري الدولي (CIB).
رؤى حديثة بأدوات قديمة
اختلفت أساليب الفنانين في تناول موضوعاتهم حول نبات البردي. فعبّر كل منهم عن رؤيته المعاصرة. واستلهم بعضهم النماذج المصرية القديمة، ومنهم من أبدع في رسم مشاهد حديثة باستخدام تقنية الرسم القديمة، في مزيج بين إبداع الماضي والحاضر.
تجسد أعمال الفنان التشكيلي علاء أبو الحمد، وهو فنان معاصر يستلهم أعماله من طبيعة الصعيد وتراثه، روح الحضارة المصرية القديمة بجمالياتها الهادئة والقوية.
الفنان أحمد عبد الفتاح، أحد المشاركين في المعرض، وهو مصوّر مصري وفنان واقع افتراضي، اعتمد في رسم لوحته على “موديل” جالسة بجوار شجرة الجميز المشهورة في مصر القديمة. بدأ عبد الفتاح بالرسم باستخدام الأكاسيد البنية- الأحبار- في خطوط اللوحة، ثم استكملها باستخدام أسلوبه بالألوان الزيتية في رسم الموديل بصورة معاصرة.
من ضمن المشاركين في المعرض، الفنانة التشكيلية هند الفلافلي، التي تركز أعمالها على قضايا المرأة. وهي استخدمت في رسمها على ورق البردي، ألوان الأكريليك، حيث رسمت سيدة تحمل مصباحاً وحولها تدور الفراشات.
ومن ضمن المشاركة الدولية في المعرض، أعمال الفنانة والخطاطة الإيطالية أنتونيلا ليوني، التي تدرس حالياً الخط العربي في أكاديمية باب اللوق بالقاهرة، حيث عرضت لوحتان من إبداعها بالخط العربي.
وعبّرت الفنانة التشكيلية سالي جمعة عن الفكرة بطريقة مختلفة، إذ رسمت فتاة تحمل نبات البردي في مقدّمة القارب على تول من القماش، لكنها استخدمت البردي في أجزاء متفرقة من اللوحة. ورسمت الفنانة التشكيلية أميرة قرطام بورتريه للملكة نفرتيتي بجواراها ورود حمراء.
وأكدت رندة فؤاد، مؤسسة ورئيس مؤسسة المنتدى الدولي للفن، أن هذا الحدث “ليس مجرد معرض، بل هو رسالة تعيد وصل عبقرية المصري القديم بروح الإبداع والمرونة لدى الفنان المصري المعاصر”.
وأوضحت أنها تعاونت مع اليونسكو “على إحياء إرث النبات الذي مثل حضارة كاملة”. وأشارت إلى أن اختيار المتحف المصري بالتحرير، “كان عودة رمزية إلى جذور الكتابة والابتكار والهوية”.
مؤسسة المنتدي الدولي للفن أكدت في بيانها، أن هذا المشروع “يقدّم ورق البردي بوصفه وسيطاً معاصراً للفن المستدام؛ مادة لا تنفصل عن البيئة، ولا عن الحِرفة التي صنعتها، ولا عن التاريخ الذي مرّ عبرها”.
أضافت: “يجمع المعرض بين مهارة الحِرفيين في القرى المصرية، خصوصاً في قرية القراموص بمحافظة الشرقية، التي لا تزال تحفظ طقس صناعة البردي، وبين رؤى الفنانين الذين حوّلوا هذا التراث إلى لغة جديدة معاصرة”.
