من باريس إلى لندن.. أوروبا على طاولة التفاوض بشأن أوكرانيا

شهدت باريس، الخميس، مباحثات “أميركية– أوروبية” مكثفة، بمشاركة وفد من كييف، بشأن إمكانية إعلان وقف دائم للحرب بين روسيا وأوكرانيا، كخطوة أولية لتحقيق السلام بين البلدين.
فيما بدا أن الإنجاز الأبرز، ما لم يكن الوحيد لهذه المحادثات، هو أنها ضمت أوروبا إلى طاولة المفاوضات، بعد فترة من المساعي الأميركية، المتفرّدة، لإنهاء الحرب، إضافة إلى الإعلان عن اجتماع آخر، مرتقب في المستقبل، للهدف نفسه، في بريطانيا.
وشارك في اللقاءات الماراثونية وزير الخارجية الأميركي ماركو بوربيو، مع مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترمب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، ووفد أوكراني برئاسة رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية أندريه يرماك ووزير الخارجية أندري سيبيجا، بحضور ومشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان لوي بارو وموفدون من بريطانيا وألمانيا.
انخراط شخصي من ماكرون
وعلمت “الشرق” من مصادر في الإليزيه، أن إيمانويل ماكرون، الذي كان على اتصال دائم مع نظيره الأوكراني، إبان اللقاءات، شارك شخصياً في المحادثات مع بقية المبعوثين، وسعى إلى “تحقيق تقارب كبير لأن الجميع يريد السلام، سلاماً قوياً ودائماً”.
وبحسب الإليزيه، فإن وقف إطلاق النار “يجب أن يستند إلى الوضع كما هو حالياً”، أي عدم احتلال أي أراض أوكرانية جديدة، بمعنى المحافظة على الوضع الحالي.
وفي حين لم يصدر أي بيان رسمي، كما هو معتاد، في ختام مثل هذه الاجتماعات، اعتبر رئيس معهد الاستشراف والأمن في أوروبا إيمانويل دوبيي في حديث لـ”الشرق”، أن هذا الأمر “مؤشراً سلبياً، وينم عن استمرار تباعد المواقف الأميركية- الأوروبية حيال كيفية وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا”.
وكان الرئيس الفرنسي أعلن ترحيبه بما وصفه بـ”التبادل الممتاز” بشأن هذا الملف، وأضاف، في تغريدة له بعد انتهاء اللقاءات، أن ما حدث “يفتح الطريق إلى اتفاق بهدف تحقيق سلام متين بين كييف وموسكو”، بعد أكثر من 3 سنوات من الحرب الروسية الأوكرانية من دون تحديد آليات ذلك والمراحل اللاحقة.
أوروبا وأميركا حول طاولة واحدة
وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو، كان الأوضح بين المسؤولين، الذين شاركوا في هذه اللقاءات، إذ قال إن “الجديد فيها هو أن الولايات المتحدة وأوكرانيا والأوروبيين اجتمعوا في باريس حول طاولة واحدة للبحث في سبل تحقيق سلام عادل ودائم”.
وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي والأستاذ الجامعي بيار بارتيلو لـ”الشرق”، إن أهمية هذه اللقاءات تكمن في “أن الأوروبيين جلسوا على طاولة المفاوضات التي كانت محصورة بين الروس والأميركيين وبالتحديد مع ويتكوف، الذي اتهمه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنه يتبنى (الاستراتيجية الروسية)”.
وأجرى روبيو اتصالاً هاتفياً بنظيره الروسي سيرجي لافروف الخميس، لإبلاغه بفحوى مناقشات باريس، مؤكداً أن “السلام ممكن إذا أبدى كل الأطراف التزاماً بالتوصل إلى اتفاق”.
وقال إن زيارته إلى باريس، وهي الأولى له كوزير للخارجية، كانت تهدف الى إيجاد حلول ملموسة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا ووقف حمام الدم العبثي”. وهذا ما كان أعلنه وتعهد به دوماً دونالد ترمب خلال الانتخابات الرئاسية، حيث كان يُردد إنه قادر على حل الصراع الروسي الأوكراني خلال 24 ساعة. لكن دوبيي يشير، في حديثه لـ”الشرق”، إلى أن ذلك “لم يتحقق على الرغم من مُضيّ أشهر عدة على انتخابه”.
وفي وقت سابق الجمعة، تحدث وزير الخارجية الأميركي مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” مارك روته، لإطلاعه على مقترح السلام الذي قُدِّم للوفد الأوكراني في باريس، وكذلك للمسؤولين الروس عبر الهاتف.
وبحسب بيان للخارجية الأميركية، عبّر روبيو عن أمل دونالد ترمب والولايات المتحدة في أن يتم قبول هذا المقترح، وأن يقود إلى سلام دائم ومستقر في أوكرانيا.
وشدّد على أنه، رغم التزام الولايات المتحدة بالمساعدة على إنهاء الحرب، فإنه في حال لم تتضح معالم مسار واضح نحو السلام قريباً، فإن الولايات المتحدة ستتراجع عن جهود الوساطة.
وقال بارتيلو لـ”الشرق”، إن “الخشية الأوروبية من استثنائهم وتهميشهم من المشاركة بالمفاوضات انتهت على الأقل، سواء في لقاءات باريس أو في الاجتماع المقبل الذي سينعقد في بريطانيا”.
تباعد أميركي فرنسي
وفي شأن متصل، قال إيمانويل دوبيي أستاذ الجغرافيا السياسية في الجامعة الكاثوليكية في ليل إنه “من الصعب التكهن بما قيل خلال المناقشات في الإليزيه”.
ولكنه لفت إلى أن المواقف الفرنسية والأميركية ما زالت متباعدة بشكل كبير، خاصة في ما يتعلق بإرسال قوة عسكرية أوروبية أو من الناتو أو بشكل مستقل إلى الأراضي الأوكرانية، في ظل استمرار استجابة الأميركيين لمطالب روسيا، التي تأخذ عليها واشنطن حتى الآن عدم التزامها بمضمون اتفاق الرياض، ولاسيما وقف الأعمال العسكرية، وعدم استهداف مواقع الطاقة وعدم تعريض المدنيين للقصف”.
وفي حديث لـ”الشرق”، يرى السفير الفرنسي السابق في موسكو والباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية جان دو جلينياستي أن هناك خياران مطروحان بعد لقاءات باريس، الأول هو أن يستغل الأميركيون الضغط الذي يمارسه الأوروبيون على الروس، وأن يدعموا المساعدات ضمنياً، ما يجنبهم الضغط على روسيا، لأن ترمب يرفض ذلك.
وفي ما يتعلق بالخيار الثاني، أوضح دو جلينياستي، أنه الأكثر ترجيحاً، وهو أن “يطلب الأميركيون من الأوروبيين تخفيف عدوانيتهم تجاه روسيا، وأن يعمل الوزير روبيو على الطلب من الأوروبيين رفع بعض العقوبات عن روسيا أو أن لا تعتمد بروكسل العقوبات الجديدة قيد النقاش”.
وتابع: “يمكن للأميركيين الضغط لتقليص شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، أو ببساطة القول إنهم يريدون تطبيع علاقاتهم مع روسيا، بغض النظر عن موقف الأوروبيين”.
أما إيمانويل دوبيي، رأى أنه على الرغم من اختلاف وجهات النظر مع الأوروبيين، لا سيما مع فرنسا وألمانيا، الداعمتين بقوة للرئيس زيلينسكي، إلّا أن ما يطمئن الأميركيين هو أن غالبية الدول الأعضاء في حلف “الناتو” تسير خلف السياسة الأميركية.
واعتبر أن هذا الشكل من إعادة الارتباط يُبرر زيارات وزير الخارجية الأميركي، ولقاءاته الأوروبية، التي واصلها الجمعة، لليوم الثاني على التوالي.
شروط اتفاق الرياض “صامدة”
واعتبر دوبيي أن جولة روبيو إنما هي مثال آخر على مدى استعداد الولايات المتحدة للتنازل عن أي شيء لصالح روسيا، و”إن أدانت القصف الروسي المأساوي قبل أيام الذي قضى فيه مدنيون أوكرانيون”.
فيما يعتقد بارتيلو أن “الشروط التي جرى التفاوض عليها في الرياض ما زالت صامدة بين الأميركيين والروس وإن كانت الإدارة الأميركية تشدد على الروس بضرورة الالتزام بالنص المتفاوض” عليه في منتصف فبراير في العاصمة السعودية، حيث اتفقت روسيا والولايات المتحدة على شروط إنهاء دائم للحرب.
وأشار في الوقت نفسه، إلى حالة التوتر التي تشهدها العلاقات بين واشنطن وشركائها الأوروبيين بسبب القضية الأوكرانية منذ وصول الرئيس ترمب إلى سدة الحكم ومنذ التقارب بينه وبين الكرملين.
وفي مواجهة هذا التحول، قال دوبيي إن باريس ولندن شكلتا “تحالف الراغبين”، الذي يضم حوالي 30 دولة متحالفة مع أوكرانيا، بهدف إنشاء “قوة طمأنة” لمنع المزيد من الهجمات من روسيا، وضمان وقف إطلاق النار، إلّا أن هذا التحالف “على الورق فقط، لإنه ليس كل الدول المعنية توافق على إرسال قوات الى أوكرانيا”.
في انتظار “اجتماع لندن”
ولفت دوبيي إلى وجود تحالف واحد فقط يؤيد ضرورة مساعدة أوكرانيا والتركيز على استمرار الحرب، وعماده فرنسا وألمانيا وبريطانيا في مواجهة دول مثل إسبانيا وإيطاليا وغيرها من البلدان التي تنحو باتجاه وقف الحرب، وخفض الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، نظراً للتداعيات السلبية التي تركتها هذه الحرب على اقتصادات هذه الدول.
في المقابل، قال بارتيلو إن “روسيا لا تزال تتهم الأوروبيين بالإضرار بالسلام”، مشيراً إلى ما قاله المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف من أنه “للأسف، ما نراه من الأوروبيين هو التركيز على استمرار الحرب”.
وأشار إلى أن الكرملين يتهم باريس وبرلين ولندن بالسعي إلى استمرار الحرب وعدم وضوح مواقفهم، فيما رأى دوبيي أنه بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن شروط الأوروبيين ليست شروط سلام، وإنما هي “شروط كي تستسلم روسيا”، ومن هنا تأتي الهوة والخلاف المستحكم بين الطرفين.
ورداً على سؤال لـ”الشرق” بشأن قدرة روبيو على تحقيق أي خرق، اعتبر دوبيي أن وزير الخارجية الأميركي هو الشخص الأكثر مرونة في إدارة ترمب، مقارنة بشخصيات مثل نائب الرئيس جيه دي فانس أو ويتكوف، مضيفاً أن الدعوة إلى إبقاء العيون مفتوحة على اجتماع لندن المقبل بشأن إمكان إحراز خرق ما واضح وملموس ومكتوب، في إعلان أو بيان غاب عن لقاءات باريس.
وترى مصادر دبلوماسية أميركية لـ”الشرق”، أن إدارة ترمب ستصرف نظرها عن الملف الأوكراني إذا لاحظت عدم وجود أي إمكانية لتحقيق السلام بين روسيا وأوكرانيا، على أن يبقى الوضع على ما هو عليه، بينما ستتفرغ واشنطن عبر دبلوماسيتها لتعزيز قدراتها بقوة لتحقيق إنجاز في الملف الإيراني والتفرغ للملف الصيني، بعد أن يتأكد الأميركيون من أن “لا روسيا ولا أوكرانيا تريدان السلام”.