أحمد عسيلي
منذ الأيام الأولى للثورة السورية، بدا واضحًا أن السوريين لم يعودوا يتلقون الحدث من نافذة واحدة، كان المشهد بسيطًا في البداية: سوري يجلس أمام شاشة “الجزيرة” يرى المظاهرات على أنها حراك شعبي ضد الاستبداد، وسوري آخر يجلس أمام شاشة “الدنيا” يرى فيها مؤامرة مدبّرة تهدد “استقرار الدولة”، لكن مع مرور الزمن وتراجع سطوة القنوات الكبرى، لم يقترب السوريون من مشهد واحد، بل ابتعدوا أكثر، إذ دخلت وسائل التواصل الاجتماعي كوسيط أساسي، لتفتح الباب أمام آلاف النوافذ الصغيرة التي صارت كل واحدة منها تبني عالمًا خاصًا، لم يعد الخلاف مجرد اختلاف في التحليل، بل صار اختلافًا في الحدث ذاته، وكأن كل سوري يعيش في واقع منعزل لا يراه الآخر.
هذا التباعد يتجلى حتى في حياتنا اليومية، فمنذ فترة التقيت بصديقة كاتبة سورية، بدأت تحكي لي عن خلافات محتدمة بين “مشاهير” على “السوشيال ميديا”، وعن قضايا تعتقد أنها تشغل الرأي العام السوري، استمعت إليها بدهشة، لأنني لم أسمع باسم أي من هؤلاء الأشخاص من قبل، ولا أعرف شيئًا عن تلك المعارك التي كانت تعتقد أنها تشغل الرأي العام السوري وقتها، في المقابل، حدثتها عن شخصيات وأحداث أتابعها على “فيسبوك”، فلم تكن هي تعرف عنها شيئًا، بدا وكأننا نعيش في عالمين منفصلين، لكل منهما رموزه و”قضاياه الساخنة”، دون أن يكون بينهما جسر تواصل.
الأمر لا يقتصر على الأفراد، بل يتجسد أيضًا في القضايا الكبرى، فالحدث الأبرز حاليًا على مستوى وطننا، ما يجري في السويداء بالطبع، لكن حتى هنا كل مجموعة ترى في هذا الحدث مشاهد مختلفة تمامًا عن الأخرى، هناك مثلًا من يركز على اختفاء حمزة العمارين، ناشط “الخوذ البيضاء”، الذي صار اختطافه قضية أساسية لدى بعض البيئات، بينما غاب وبشكل شبه كلي عن بيئات أخرى، آخرون تداولوا مقاطع عن حرق بيوت البدو، أو عن قتل وسحل للجثث بأيدي الفصائل العسكرية في السويداء، متغافلين عن كثير من الجرائم التي حدثت بحق أهلنا من الدروز في تلك المدينة، في المقابل، هناك من لم يرَ كل ذلك، أو مرّ عليه مرورًا عابرًا، بينما كان الحديث عن الحصار الخانق وعن مرضى يفقدون حياتهم بسبب نقص الأدوية (وهي فعلًا قضية خطيرة)، طبعًا لكل الأحداث أهميتها الخاصة كي تصبح الرؤية أكثر بانورامية، لكننا بقينا أمام سلسلة أحداث متوازية لا يجمعها رابط، إذ يلتقط كل طرف منها الجزء الذي يؤكد روايته، هنا تجاوزنا مرحلة التجاهل أو الالتقاط العشوائي، لنصبح أمام جهل تام لكل معسكر لما يراه و تتحدث عنه بقية المعسكرات.
وما نراه في السويداء ينطبق أيضًا على صورة “الضحايا”، فبينما يُستحضر لدى بعضهم اسم المسؤول الأمني الذي عُثر على جثته في طرطوس، وعلى عنصري الأمن اللذين قتلا مؤخرًا فوق أحد جسور المدينة، ويُقدّم ذلك كرمز لاستهداف الدولة، يغيب هذا تمامًا عن خطاب المعارضين، الذين يركّزون على جرائم السلطة مثل استهداف الشاب قرب قرية كرتو. إنها أمثلة على ذاكرة انتقائية، لا تكتفي بالتباين، بل تبني عوالم متناقضة.
إلى جانب ذلك، هناك الوهم السياسي الذي غذّته وسائل التواصل، ووصل أحيانًا إلى بعض القنوات الكبرى، مثل حكاية هروب الرئيس الشرع، والتي بقي بعضهم يرددها لعدة أيام، أيضًا حكاية عضو الكونجرس الأمريكي الذي ينسق جهوده مع أحد معارضي السويداء لسحب الاعتراف بشرعية السلطة، لنفاجَأ بهذه الشخصية بزيارة للقصر الجمهوري. ومع ذلك، لا أحد من مروّجي هذه الأوهام يعود ليعتذر أو يعترف بخطأ تقديره، وكأن الاعتراف غير موجود في القاموس، إذ يواصل كل طرف تشييد وهم جديد لجمهوره.
ولا يتوقف الأمر عند السياسة، بل يشمل الاقتصاد أيضًا، فالمليارات التي تُعرض على الشاشات كمساعدات أو استثمارات لا يجد الناس أثرها في حياتهم اليومية، فلا مشاريع ولا تحسن فعلي. هنا أيضًا تُبنى صورة إعلامية مختلفة عن الواقع الملموس، وتتحول الأرقام إلى أدوات لإنتاج الوهم.
في التحليل النفسي- الاجتماعي، يمكن القول إن ما نعيشه ليس مجرد انقسام سياسي، بل حالة من تجزؤ الواقع، كل فرد أو جماعة تعيش داخل “فقاعة إدراكية” (cognitive bubble)، ترى من خلالها العالم، وتستبعد ما لا يتماشى مع قناعاتها، لم تعد “السوشيال ميديا” فضاء للتواصل وتبادل الرؤى، بل آلية تعمّق العزلة وتمنح كل طرف شعورًا زائفًا بالتماسك الداخلي، وبدل أن تُقَرِّب المسافات، أسهمت في تفكيك المشترك، حتى صار السوريون فعليًا يعيشون في جزر معزولة.
النتيجة أن الهوة لم تعد بين “معارضة” و”موالاة” فحسب، بل بين مجموعات أصغر، بل وبين أفراد، كل واحد يملك سرديته الخاصة، وحقائقه الخاصة، و”رأيه العام” الخاص، لم نعد أمام شعب واحد يتجادل حول تفسير ما يجري، بل أمام مجموعات صغيرة تتعايش في وهم متوازٍ، دون أن تلتقي.
هذا التشظي يجعل بناء مستقبل مشترك أكثر صعوبة، فما لم يتفق السوريون أولًا على تعريف الماضي والحاضر، سيبقى التوافق على المستقبل معلقًا في الهواء، لقد تحولت وسائل التواصل التي كان يُفترض أن تكون جسرًا، إلى جدار صامت يعزل السوريين عن بعضهم، ويدفعهم أكثر فأكثر إلى العيش في عوالم متوازية، لا يربط بينها سوى اسم بلد صار لكل جماعة داخله بلدها الخاص.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي