أعادت أساليب ضغط الرئيس الأميركي دونالد ترمب على نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإنهاء الحرب مع روسيا، عبر تقديم تنازلات، مثل التخلي عن أراضٍ لموسكو، إلى الأذهان، موقف سلفه السابق بيل كلينتون، خلال دفع نظيره الأوكراني في عام 1994، ليونيد كرافتشوك، للتوقيع على “اتفاق بودابست”.

في يناير من عام 1994، كان كرافتشوك يجلس إلى جانب كلينتون، ونظيرهما الروسي آنذاك، بوريس يلتسن في موسكو، يوقع على “بيان ثلاثي” لفتح مسار تخلي كييف عن ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، مقابل وعود أميركية روسية بريطانية بـ”ضمانات أمنية” تعرف حالياً بـ”مذكرة بودابست 1994″.

كان الموقف، حينها، يبدو وكأن الأطراف الثلاثة يوقعون على اتفاق بشأن نزع السلاح النووي الأوكراني، وتخلي كييف عن ترسانتها دون ضغوط أو مساومات، إلا أن على مدار الـ25 عاماً الماضية، ظهرت وثائق ودراسات وتحليلات تشير إلى أن أوكرانيا، تعرضت إلى ضغوط هائلة وفق “سياسة العصا والجزرة”.

عند انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وجدت أوكرانيا نفسها، تمتلك مئات الصواريخ العابرة للقارات، وقاذفات استراتيجية برؤوس نووية سوفيتية، ما جعلها، على الورق، صاحبة ثالث أكبر مخزون نووي في العالم، على الرغم من أن إعلان استقلال كييف في عام 1990، ينص على أنها دولة خالية من السلاح النووي.

ووفق تحليل لجامعة “ستانفورد” الأميركية، فإن هناك تساؤلات ملحة ظهرت بشأن الترسانة النووية، مثل كلفة تفكيك الصواريخ والبنية التحتية؟ وكيف تُعوَّض قيمة اليورانيوم عالي التخصيب في الرؤوس الحربية؟ وما الضمانات الأمنية إذا تخلّت عن “مظلة” الردع النووي في ظل الخوف المستمر من الجارة روسيا؟

الولايات المتحدة وضعت في صدارة أجندتها لكييف بند “إخراج السلاح النووي من أوكرانيا”. ووصف تقرير لمؤسسة “بروكينجز” الأميركية البحثية غير الربحية، كيف انتقلت واشنطن من مراقب إلى وسيط مباشر بين كييف وموسكو، لتصميم “صفقة ثلاثية” تُخرج كل الرؤوس النووية نحو روسيا، مقابل تعويضات اقتصادية ومساعدات فنية، وتعهّدات سياسية بأمن أوكرانيا.

نزع السلاح النووي السوفيتي

كان أسلوب الضغط في إدارة كلينتون في تلك المرحلة “مركّباً بعض الشيء”، ما بين “ترغيب” بمساعدات اقتصادية وعسكرية، و”ترهيب دبلوماسي” مبطّن، بأن بقاء أوكرانيا دولة نووية سيضعها خارج المنظومة الغربية.

وخلال مؤتمر صحافي مشترك  في واشنطن في مارس 1994، ربط كلينتون علناً بين تمويل برنامج “نن–لوجار” لتفكيك الأسلحة، وبين استمرار أوكرانيا في تنفيذ التزاماتها لنزع السلاح النووي، والانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار NPT، موضحاً أن هذه الأموال خُصصت لمساعدة كييف على تحمّل كلفة تفكيك ترسانتها.

ويعرف برنامج “نن–لوجار”، باسم برنامج التعاون في تقليل التهديدات Cooperative Threat Reduction – CTR، وهو مبادرة أميركية أُطلقت في عام 1991 لمساعدة دول الاتحاد السوفيتي السابقة في تفكيك وتأمين أسلحة الدمار الشامل (نووية، كيميائية، وبيولوجية).

ويوضح تقرير لمعهد أبحاث العلاقات والشؤون الدولية في جامعة “ستانفورد”، أن خيار الاحتفاظ بالسلاح النووي كان يعني عملياً عزلة سياسية لكييف وحرماناً من المساعدات الغربية الحيوية التي قد تؤدي إلى انهيار حتمي للاقتصاد الأوكراني.

ووفق التقرير، فإن واشنطن استثمرت حاجة أوكرانيا “الملحة” لمساعدات صندوق النقد والبنك الدوليين، ورسخت في ذهن نخبها السياسية أن استمرار “الغموض النووي” سيعرقل التمويل والعلاقات الطبيعية مع الغرب.

إلى جانب العصا، لوّحت واشنطن بـ”جزرة كبيرة”، وهي مضاعفة المساعدات الاقتصادية، وتسهيل اندماج أوكرانيا مع المؤسسات الغربية، بما يشمل “شراكة من أجل السلام مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال السنوات المقبلة”، في إشارة إلى الأعوام التي تلت توقيع “اتفاق بودابست”.

كلينتون وكرافتشوك

في يناير من عام 1994، توجه كلينتون إلى موسكو، في أعقاب جولة أوروبية، لتوقيع “الاتفاق الثلاثي”، ولكنه قرر في الطريق من براج إلى موسكو، التوقف في مطار بوريسبيل الأوكراني، بحجة “التزود بالوقود”، ليستقبله كرافتشوك ووزير خارجيته، أناتولي زلينكو، ومستشاره للشؤون الدولية، أنطون بوتيكو.

وفي كتابه The Russia hand، أشار نائب وزير الخارجية الأميركي، في إدارة كلينتون، ستروب تالبوت، إلى أنه “بمجرد هبوط الطائرة في كييف شعرنا بأننا قد خُدعنا.. وحاول زلينكو وبوتيكو كتم صوت رئيسهما (الموافق) وإعادة فتح قضايا قديمة.. فقرر كلينتون وكريستوفر، وهما اللذان لم يكن أيٌّ منهما معتاداً على التعامل بخشونة مع أي من رؤساء الدول، أن يقوما باستثناء هذه المرة”.

وأضاف تالبوت: “أبلغا كرافتشوك بأشد العبارات صراحةً أنه إذا تراجع عن الصفقة التي تم التوصل إليها بالفعل، فسيكون ذلك نكسة كبيرة لعلاقات أوكرانيا بكلٍّ من روسيا والولايات المتحدة.. وبينما كان زلينكو وبوتيكو يعبسان، تعهّد كرافتشوك، الذي بدا عليه الاضطراب، بالالتزام بالاتفاق، وألا يلجأ إلى أي خدع في اللحظة الأخيرة عندما يأتي إلى موسكو بعد يومين لتوقيع الاتفاق الثلاثي”.

“نصوص مطمئنة” دون “ضمان دفاعي”

في 5 ديسمبر 1994، وقّع قادة أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا في بودابست “مذكرة الضمانات الأمنية في سياق انضمام أوكرانيا إلى معاهدة حظر الانتشار النووي”، إذ تضمنت 6 التزامات رئيسية من واشنطن وموسكو ولندن تجاه كييف، وفق وثيقة صادرة عن مجلس الأمن الدولي.

أبرز التزامات واشنطن وموسكو ولندن تجاه كييف:

  • احترام استقلال أوكرانيا وسيادتها وحدودها القائمة.
  • الامتناع عن التهديد أو استخدام القوة ضد سلامة أراضيها أو استقلال كييف السياسي.
  • الامتناع عن “الإكراه الاقتصادي” الذي يهدف لإخضاع قرارها السيادي.
  • تحرك فوري لمجلس الأمن الدولي إذا تعرضت أوكرانيا لعدوان نووي.
  • عدم استخدام السلاح النووي ضد دولة غير نووية مثل أوكرانيا.
  • التشاور المشترك في حال نشوء أي إشكال يتعلق بهذه الالتزامات.

لكن في نقطة حاسمة، ميز المفاوضون الأميركيون بين Security Guarantees (ضمانات أمنية)، وSecurity Assurances (تعهدات/تطمينات أمنية).

ووفق تحليل مفصل لتاريخ المذكرة، أصرت وزارة الخارجية الأميركية على استخدام كلمة Assurances الأقل إلزاماً من Guarantees، كي لا تُفهَم المذكرة كمعادل للمادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والتي تُلزم الدول الأعضاء في الحلف بالدفاع العسكري المشترك.

ترمب وزيلينسكي

بعد أكثر من ثلاثة عقود، تجد كييف نفسها مرة أخرى أمام “ضغط أميركي”، بشأن الحرب الروسية، حيث نقلت وسائل إعلام غربية عن مسؤولين، أن ترمب يرغب في استعدادات أوكرانية لتقديم “تنازلات” في المفاوضات الجارية، لإنهاء الحرب. 

ومنذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، أنفقت الحكومات الأوروبية، إلى جانب الولايات المتحدة، مليارات الدولارات لدعم كييف مالياً وعسكرياً، غير أن الولايات المتحدة، في ظل حكم ترمب، خفّفت من دعمها، وبدلاً من ذلك دفعت بقوة نحو إنهاء الحرب.

في خطوة غير معتادة، اختار البيت الأبيض وزير الجيش، دان دريسكول، لعرض خطة إنهاء الحرب في أوكرانيا، على زيلينسكي في كييف، والذي بدوره حذر من أن أوكرانيا تواجه “هزيمة وشيكة” من الروس، كما شدد على أن “التفاوض على حل سلمي هو الوسيلة الأفضل”.

ولاقت الخطة انتقادات أوروبية وأوكرانية، إذ اعتبروها “تنحاز إلى مطالب موسكو”، بينما تشير تقارير أميركية، إلى أن الخطة سلطت الضوء على انقسام بين فريقين متنافسين في واشنطن بقيادة روبيو ونائب الرئيس جي دي فانس، بشأن طريقة التعامل مع حرب أوكرانيا.

أساليب متفاوتة للضغط الأميركي على كييف

  • تهديد بوقف المساعدات

خلال مفاوضات 1994، حذر كلينتون، كرافشوك من أن رفض التوقيع على اتفاق بودابست”، سيؤدي إلى “ضرر كبير في العلاقات الأميركية-الأوكرانية”، مما دفع أوكرانيا إلى تقديم تنازلات رغم مخاوفها الأمنية، وفق كتاب The Russia hand لتالبوت. 

في خطة ترمب، يُستخدم التهديد بوقف المساعدات العسكرية (التي تجاوزت مليارات الدولارات منذ 2022) لإجبار كييف على قبول التنازلات (مثل الاعتراف الفعلي بسيطرة روسيا على دونباس والقرم) والصفقة الاقتصادية، مع وصف ذلك بـ”ضربة قوية لجذب الانتباه”. هذا يشبه “الإكراه السلبي” في كلا الحالتين، وفق وكالة “رويترز”.

  • وعود اقتصادية

نصت “مذكرة بودابست” صراحةً على “الامتناع عن الإكراه الاقتصادي المصمم لإخضاع أوكرانيا لمصالح الدول أو سيادتها”، لكن الولايات المتحدة استخدمت المساعدات الاقتصادية (310 ملايين دولار في عام 1994) مقابل التنازل النووي، وفق Geopolitical Monitor، وهي مؤسسة كندية مستقلة للتحليل الجيوسياسي والاستخبارات.

بدورها تربط خطة ترمب لسد ما وصفها بـ”ديون” على أوكرانيا من خلال الدعم العسكري، بصفقة تعطي الولايات المتحدة نصف إيرادات استغلال المعادن الأرضية النادرة الأوكرانية، مما يُعتبر إكراهاً اقتصادياً مباشراً يهدد السيادة الأوكرانية، ويُشبه انتهاكاً لنفس البند، وفق مؤسسة “بروكينجز” الأميركية.

  • ضمانات أمنية غير ملزمة

شددت “مذكرة بودابست” على “احترام السيادة والحدود” الأوكرانية، دون التزام عسكري، مما جعلها “غير فعالة” أمام سيطرة روسيا على القرم في عام 2014، والحرب الشاملة في عام 2022، وفق RadioFreeEurope.

في خطة ترمب، تُقدم ضمانات أمنية ثنائية مشابهة، مثل “الدعم حال الاعتداء” الروسي على أوكرانيا، مقابل التنازلات، وتعتبر غير فعالة حال أطلقت كييف صاروخاً تجاه موسكو أو سان بطرسبرج.

شاركها.