في ليلة افتتاح دورته الخامسة، شهد مهرجان البحر الأحمر السينمائي (4-13 ديسمبر) العرض الأول في الشرق الأوسط لفيلم Giant من إخراج الإنجليزي Rowam Athale وبطولة القدير بروس بروسنان والممثل الشاب أمير المصري.
كان الفيلم المصنف رياضي وسيرة حياة قد عرض للمرة الأولى في مهرجان لندن، واختارته إدارة مهرجان البحر الأحمر ليكون فيلم افتتاح الدورة الخامسة، على اعتبار أنه يتناول جانب من قصة حياة ونجاح بطل إنجليزي من أصل عربي، هو الملاكم الأسطوري نسيم حامد الذي حاز على لقب بطل العالم في وزن الريشة خلال الفترة من 1995 حتى عام 2000، وفاز في 36 مواجهة من أصل 37 دخلها على مدار مشواره القصير – اعتزل وهو في عمر 28 سنة- وقام المثل الإنجليزي من أصل مصري أمير المصري بتجسيد دور نسيم- محققاً حالة أدائية عالية الجودة والتقمص، رغم اختلاف اللون والهيئة الجسمانية.
إلا أن عملاق – وتجريد الاسم له دلالة ترتبط بطبيعة الدراما- لا يتناول بشكل أساسي سيرة نسيم حامد أو الأمير نسيم كما لقبته الصحافة البريطانية، وعرفته حلبات الملاكمة، بل أن الفيلم في سرديته يتناول جانب مهم جداً من حياة المدرب الإنجليزي برايندن إيجل الذي كان سبباً في اكتشاف نسيم – وعدد آخر من أبطال الملاكمة العالميين- وذلك انطلاقاً من صالة الألعاب التي أسسها باسمه في مدينته البريطانية شيفيلد، وأصبحت مفرخة هامة لأبطال الملاكمة الإنجليز- الذين من بينهم نسيم حامد وآخرين- وحاضنة اجتماعية ورياضية مهمة بالنسبة لأطفال وشباب الشوارع لفترة تجاوزت الأربعين عاماً، وتوفي براندون عام 2018 بعد ان توج بجائزة أفضل مدرب ملاكمة في تاريخ اللعبة.
صوت الحكاية
يبدأ الفيلم مع فوز نسيم بلقب بطل العالم في مباراته عام 97 في جاردن سكوير، حيث يتم تقديم شخصيته بعد سنوات من احترافه، ثم نعود بالزمن إلى عام 81 عندما كان عمره ٧ سنوات فقط، ولكننا لا نراه أو نتعرف عليه! بل يلتصق الحكي بشخصية بريندون/بروسنان الذي نراه وهو يلتقط نسيم ببصيرته القوية، وهو يحاول كطفل ان يتملص من الإمساك به بينما يلعب من أقرانه!
هذه اللحظة تحديداً تعكس موهبة الرجل المتفردة، وهي قدرته على اكتشاف المواهب من النظرة الأولى – والفيلم كله في الحقيقة يقدم تمجيد كبير للرجل في مختلف تجلياته، سواء سلوكه التدريبي أو الاجتماعي أو حكمته وأسلوبه المتفرد والمميز في تدريب لاعبيه واكتشاف ثغرات الخصوم، ووضع خطط النزال وتوقيات الضربات القاضية.
يتحرك السرد وفق شخصية براندون راسماً في البداية أبعاده الشكلية – في أداء مذهل وتقمص مخضرم من بروسنان العجوز- ثم البعد الاجتماعي له – زوجة وابنين يساعدانه في التدريب بالصالة المتواضعة التي تحمل اسمه- ويضاف لهذا البعد موقفه الاجتماعي الرافض للعنصرية، نراه وهو يطرد اثنان من الشباب الأبيض العنصري، وهو يلوث واجهة محل المهاجرين العرب الذي يشتري منه براندون اللبن، زجاجة واحدة حسب مقدرته المادية، ليكتشف أن صاحبة المحل هي أم الطفل الذي شاهده من قبل، وهو يراوغ أصدقائه بخفة ومهارة وأقدام راقصة.
في مقابل هذا نتعرف على كل ما يخص نسيم من عينا براندون فقط، أو في محيطه، أو فيما يخصه، باستثناء مشاهد قليلة جداً نرى فيها نسيم مع إخوته عقب انفصاله عن براندون بعد 17 سنة من الرعاية والتدريب.
ماذا يعني هذا؟ يعني أن براندون هو البطل الدرامي الذي نتابع رحلته، وإن نسيم هو الرحلة نفسها أو واحدة من الرحلات العديدة التي خاضها هذا الرجل.
يحمل بوستر الفيلم صورة بريندون/بروسنان، وهو يقف خلف نسيم/أمير، الوقوف يعطيه ظلاً أطول وسيطرة أكبر على مستوى اللاوعي، لأنه في درجة أعلى من الجالس في التكوين البصري، وكلما توغلنا في الحكاية كلما شعرنا بقوة هذا الرجل وحكمته وقوة حضوره.
في أول حضور لنسيم يطلب منه المدرب أن يغني أمام الصالة لكي يكسر خجله، فيقول له نسيم أنا لا أغني أنا أرقص، وهو ما يستوعب المدرب الحاذق على اعتبار أنه جزء من تكوين شخصية البطل الصغير، وفي مشهد آخر نراه وهو يقوم بلقاء تليفزيوني، ويستدعي واحد من اللاعبين، ويسأله عما تعلمه في الصالة، فيقول أنه تعلم أن يحب الجميع حتى الباكستانين، وكان الإنجليز في هذا الوقت يقومون بحملات كراهية تجاه المهاجرين الملونين من أصول عربية وآسيوية ناعتين الكل بأنهم باكستانيين!.
هذه المشاهد ليست مجانية، ورغم كون بعضها مباشر – وربما أرشيفي معاد تمثيله، نظراً لما يتمتع به الرجل من أرشيف تليفزيوني كبير خلال سنوات الثمانينات والتسعينات، إلا أن كل هذا خاصة في البداية يكرس لكونه صاحب الحكاية وليس نسيم، وهذا ليس تقليلاً من شأن قصة نسيم ولا حكايته، ولكن من الضروري أن يدرك المتفرج من هو صاحب الرحلة الذي يمضي معه عبر زمن الفيلم، إذا كنا أمام فيلم بيوجرافي أو سيرة حياة فهي للمدرب وليست اللاعب.
دعهم يكرهونك
يلعب السيناريو لعبة شديدة الذكاء في بناء العلاقة بين المدرب ونسيم، ينتزعه السرد من أسرته فلا نرى مشهد أحد له في البيت، ولا تظهر أمه سوى في مشهدين فقط، الأول عندما تطلب من المدرب أن يدرب أبنائها الثلاث الصغار لكي يدافعوا عن أنفسهم ضد عنصرية زملائهم البيض، والثاني عندما توبخ نسيم بعد سنوات؛ لأنه تطاول على مدربه بعد أن تحدث عن نفسه، ونسب لمجهوده جانباً مهماً مما وصل إليه نسيم! مما أثار حفيظة وغيره وضيق ومراهقة الأخير.
أما والد نسيم فلا نراه أبداً سوى في مشهد واحد يجلس صامتاً، بينما توبخ الأم ابنها ليعتذر إلى المدرب، وفي مقابل هذا يكتفي السيناريو بالأخ الأكبر رياض الذي يمثل الطموح المادي العنيف لنسيم وعائلته – خصوصا الأخ- الذي تحتوي كل مشاهدة على حالة احتقان شديدة تجاه المدرب ومحاولة إقصاءه بأي شكل من حياة ومباريات نسيم، بحجة أنه يتكسب من وراءه، بينما كل ما يكسبه نسيم يجب أن يكون من حقه هو وعائلته فقط!
في الحقيقة، تبدو المقارنة بين عائلة المدرب وعائلة نسيم مقارنة لصالح العائلة الإنجليزية البيضاء الطيبة التي تعيش في شظف عيش لا يناسب عبقرية عائلتها وقدرته على اكتشاف المواهب ورعايتها وصقلها، ثم إطلاق بريقها إلى الحلبات!
بينما تبدو عائلة نسيم – العربية المهاجرة- مكونة من أم حنون تتفهم الأمر، وتوقر المدرب، وأب صامت بشنب يجلس على شفتيه ليسكتهم وأخ أكبر صاحب نظرة مادية عنيفة وعفنة وأخ أصغر في ركاب الكل! ونسيم نفسه يقدمه السيناريو بشكل يعكس غرور واندفاع وتعالي وتنمر وإذلال لخصومه وأنانية مفرطة في التعامل مع مدربه وصاحب الفضل الأكبر والأهم عليه.
هذه المقارنة تتوزع عبر فصول الفيلم ومحطات العلاقة بين المدرب ونسيم؛ وبالتالي لا يمكن تمريرها دون تساؤل عن حقيقة الزاوية التي أراد صانع الفيلم ان نرى منها القصة والعلاقة!
خلال المحطة الأولى من العلاقة يبدو المدرب كأب بديل بالنسبة لنسيم، لا يكتفي فقط بتدريب قدميه الخفيفتين على خطوات الملاكمة التي تشبه الرقص، بل حتى وهو يصقل كرامته بالنصائح كي تعكس إهانات المجتمع المحيط والجمهور المتحفز بشكل عنصري ضده بحكم لونه وأصوله، حتى لا يتأثر بها، بل تتحول إلى جزء من تألقه الدائم وإشعاع حضوره القوي والخاطف، مختصرا كل هذا في شعار واحد سوف يلازم أذن نسيم دائما (دعهم يكرهونك).
في محطة تالية سوف يعتبر نسيم هذه النصيحة/اللطمة، واحدة من أسباب شراسته وغروره غير القابل للسيطرة أو الترويض، وسوف يصل الأمر إلى ذروته في المشهد التخيلي الأخير بين نسيم وبريندون – من وجهة نظر المدرب وخياله- وهو يعتذر لنسيم عن الأسلوب الذي اتبعه معه وهو صغير، لكي يقوي فيه صلابة البطل ضد الدعاية المضادة من جمهور متعطش للعنصرية والسب ورافض لأي مختلف أو دخيل على مجتمعه أو دائرته البيضاء الناصعة من وجهة نظره.
ولما كانت الحكاية كلها تروى من عينا المدرب، فإنه حتى لحظة هزيمة نسيم في النزال الوحيد الذي خسره – أمام البطل اللاتيني بريرا- فإننا لا نشاهد هذه اللحظة! لأن المدرب يخرج من منزله ليجلس في البرد، ثم تنضم إليه زوجته وهو يتحدث عن حسرته الشديدة في أن نسيم لم يضع خطة لمواجهة بريرا، وأن هذه الهزيمة يمكن أن تسحق مستقبله كله، بالفعل يعتزل نسيم بعد هذه الخسارة الوحيدة في مجموع مبارياته ال 37.
هنا أيضا يمنحنا السيناريو شعور الهيمنة الأبوية على نسيم، والتي لا تعكس فقط التوجيه والرعاية، ولكن رفض المدرب حتى ان يرى لحظة الهزيمة الوحيدة في حياة ربيبه وواحد من أبناء تجربته الأسطورية في تدريب الملاكمة وصناعة الأبطال.
عملاق!
نعود للحديث عن دلالة تجريد الصفة في عنوان الفيلم!
صار معروفاً لدينا أن إشارة العملقة لا تخص نسيم، الذي أصبح كما أسلفنا هو جانب من رحلة براندون، وليس هو المقصود بالتضخيم – رغم الحالة البصرية المحفزة مطلقة الأدرينالين في رأس المتفرج، وهو يتابع النزالات المختلفة التي يتألق فيها أمير المصري، وهو يتقمص شخصية نسيم بشكل يعكس موهبة حقيقة ومنهجية عالية الجودة في إيهام المتفرج بأنه هو نفسه نسيم حامد في الشكل والحركة والروح.
لكن براندون في النهاية يصبح هو العملاق الحقيقي من وجهة نظر الحكاية، الحكاية التي تتحدث عن عملاق من عمالقة التدريب الرياضي، الاحترافية، التفاني، والإخلاص لحكمة الجسد المروض، وكيف يمكن أن تساهم في بناء مجتمع نظيف من آفات العنصرية والجريمة والكراهية.
تبقى الإشارة إلى عدة نقاط
أولها ان المخرج Rowam Athale هو نفسه كاتب السيناريو وهو في الأصل كاتب رغم تجاربه الإخراجية القليلة، وهو كاتب مخضرم لديه قدرة هائلة على صياغة حوار متعدد الطبقات والدلالات واستخدام وتوظيف التشبيهات النابعة من مخيلة الشخصيات وثقافتها المجتمعية على سبيل المثال، حين يحاول المدرب أن يدمغ ثقة نسيم بنفسه في مقابل الإهانات العنصرية التي يتلقاها كل مباراة في بداياته يقول له ارتفع فوقها وطر بالقرب من الشمس لينعكس ظلك كعملاق!
هذه ليست مجرد نصيحة، بل هي فلسفة بريندون نفسها التي تمكنه عبر تاريخه المليء بالخيبات والإحباطات أن يدري أكثر من بطل للعالم بعد تخلي نسيم عنه وطعنه في أبوته واتهامه بأنه السبب في شراسته وغروره وبالطبع تكسبه المال من ورائه!
وفي مشهد آخر عندما كانت زوجته تحذره؛ مما يفعله مع نسيم الصغير تقول له في إرهاصة حوارية سوف تتحقق أنك حين تقوم بإحماء السكين، فسوف ينتهي بك الحال إلى ان تقطعك أيضاً؛ لأنها ساعتها لن تفرق بين يدك ويد الآخرين! وهو نفس ما سوف يحدث بعد ذلك حين يطرد نسيم عبر أخاه رياض المدرب من معيته البراقة متخلياً عن إشاراته الهامة وقت المباراة لينتهي الأمر بهزيمته الوحيدة.
يلعب الحوار دور كبير في بناء الحالة البصرية للفيلم وهي مهارة تستحق التقدير، ويمكن أن نشير مثلاً إلى مشهد الاتفاق بين المدرب ونسيم الصغير على نسبة المكسب في ثروة نسيم – التي لم تكن قد تكونت بعد- فحيث يقول نسيم للمدرب أنه بعد أن يكسب 40 مليون جنيه إسترليني سوف يشتري لامبورجيني، فيقول له أن هذه الثروة سوف تمنحه أكثر من مجرد سيارة، فيرد الطفل أنه سوف يشتري إذن أربع سيارات، ثم في الفصل الأخير، حين يذهب نسيم للتلصص على مدربه المطرود عقب فوز محلي مع بطل جديد نراه وهو يخرج من بيته وأربع سيارات فيراري ولامبورجيني تقف بالفعل خارج فيلته الضخمة!
هكذا يتداخل الحوار عضوياً مع السرد البصري، ويتحول من مجرد نقل للمعلومات أو عرض للشخصيات أو تعبيراً عن المشاعر والأفكار إلى حالة مكونة للصورة ومرهصة بنتائج الصراع ومكملة للسرد الدرامي دون ثرثرة، رغم تكرار مشاهد المواجهات بين نسيم وبراندون فيما يتعلق بمشاكل المدرب مع حربة الغرور التي يطعن بها نسيم خصومه وأصدقائه على حد سواء.
أيضاً مشهد المواجهة والاعتذار المتبادل في نهاية الفيلم بين المدرب ونسيم وهو مشهد متخيل في خيال براندون يعكس تكريما كبيرا لشخصية الرجل الإنجليزي – أو الأيرلندي كما يشيعون عنه- بأخلاقه العالية وروحه المتسامحة والمتواضعة في نفس الوقت – نراه بعد ان ينفصل عن نسيم يقوم بكنس الصالة كأنه يذكر نفسه بأنه هذا هو الأساس، بل ويدخل عليه طفل صغير أسمر كما نسيم في أول مرة، ويقول له أنت الرجل الذي درب نسيم حامد أريدك أن ان تدربني فيحتضنه براندون، ويأخذه إلى الحلبة من أجل أن يبدأ معه من جديد!
هذا المشهد- المواجهة- يخلق حالة من الريليف –التخفيف من حدة الاحتقان الشعوري- بين المدرب ونسيم، ويعكس مصالحة كان من الممكن أن تتم لو ان نسيم تحلى بالفعل بروح الرياضة، وليس فقط بذبذباتها الخارجية العنيفة، وفي نفس الوقت هي حالة مكاشفة صريحة بين بريندون وذاته حيث يعلن أنه كان مخطئا عندما ربى هذا الشرس المغرور داخل نسيم الطفل، بل ويعتذر له! كأنه يعتذر لكل من تابع رحلته، لأنه وإن كان عملاقاً في مجاله، فإن العمالقة أيضاً تخطئ، ولكن فخامتها لا تمنعها أبداً من أن تبدي الندم على أخطائها.
الملاحظة الأخيرة هي أن العمل في جانب منه يتحدث عن بطل ملون يصعد إلى عرش الملاكمة في العالم كما تقول مبادئ الصوابية السياسية، إلا أنه في نفس الوقت يبدو مناقضاً للصوابية التي تشكل عنصرية مضادة تجاه البيض ومبادئ الحضارة الغربية حيث ينتصر الفيلم للرجل الأبيض الإنجليزي، ويجعله قامته أعلى من قامة اللاجئ العربي الملون الذي يبدو في كثير من المشاهد مادي ونفعي ومتنمر وغير مخلص وناكر للجميل والرعاية! وهي نبرة درامية لم نعد نراها في السنوات الأخيرة، ونعني بها سنوات صعود الصوابية وما تحمله من تبجيل أعمى وفوقية مقصودة لكل ما هو جندري أو عرقي أو ملون بحجة إصلاح ما فسد وجلب الحق المهدور لأصحابه.
نحن إذن أمام فيلم لو طبقنا عليه الصوابية السياسية لصار حلبة نزال لا يقل عنفا وشراسة عن نزالات نسيم حامد، ولكنه مطبوخ بشكل ذكي وجريء يجعل حججه وفرضياته ذات متانة لا يسهل دحضها أو إسقاطها بالضربة القاضية.
*ناقد فني
