في عام 2002، قدّم المخرج النيوزيلندي أندرو نيكول، صاحب The Truman Show و Lord Of War، فيلمه S1m0ne، والذي يعد الآن بعد مرور 23 سنة نبوءةً مبكرة عن بداية عصر انقراض النجم وبقاء الصورة.

هذه النبؤة التي تأكدت مؤخراً بظهور الممثلة الرقمية تيلي نوروود Telly Norwood، وهي واحدة من أوائل الممثلات الافتراضيات  Virtual Actress / AI Actress، التي تم تقديمها مؤخراً في إعلان حقق ملايين المشاهدات كنتاج لتطور الذكاء الاصطناعي في مجال صناعة السينما.

لم تكن “سيمون” بطلة فيلم نيكول ممثلة حقيقية، وكذلك تِلي نوروود ليست إنسانة حقيقية، بل شخصية تم توليدها بالكامل من ملامح الوجه إلى الصوت وحتى أسلوب التمثيل، ثم تطويرها بواسطة فريق يجمع بين مبرمجين وفنانين رقميين ومخرجي أداء، بهدف اختبار مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة التمثيل الإنساني في الأفلام.

وتمثل نوروود بلا شك جزءاً من موجة “الممثلين الرقميين” الذين يجمعون بين تقنيات Motion Capture وGenerative AI وDeepfake، ما يجعلها قادرة على أداء أدوار جديدة بالكامل أو استكمال أدوار ممثلين راحلين، رغم إعلان صناعها أنها مجرد محاولة على طريق المحاكاة وليست بديلاً للممثلين البشر!

جاذبية تفوق الواقع

في الفيلم النبؤة كانت “سيمون” كائناً رقمياً يُدار من خلف الشاشة، لكنها امتلكت جاذبية تفوق الواقع، وحرّرت الخيال من عبء الممثلة الحقيقية، قدمتها وينونا رايد، التي ظهرت في البداية كنموذج فج لسطوة النجوم في هوليود، وغيرها من عواصم صناعة السينما في العالم، فهي النجمة التي تطالب بجاكوزي لا يبعد 80 خطوة عن أي موقع تصوير تتواجد فيه، وتعلن انسحابها من أي فيلم، إذا كان الكارفان الخاص بها ليس أطول من كارفان الممثل او الممثلة الذين يشاركونها البطولة، وتصر على أن تصطحب جليسة أطفال معها في السفر على درجة رجال الأعمال رغم أنها غير متزوجة وليس لديها أولاد!

وبعد أكثر من عقدين، تتجسّد هذه النبوءة في تيلي نوروود، أول ممثلة “مولدة” بالكامل بالذكاء الاصطناعي، لا تملك ماضياً ولا جسداً، وليس لها نظام غذائي مخصوص ولا حساسية تجاه أطعمة أو بشر بعينهم، ولا تحتاج إلى كارفان ولا جيش من مصممي الملابس والكوافيرات وفنانوا المكياج، ولا تدريبات على الأكشن ولا عمليات تجميل، لكنها تمتلك كل ما يحتاجه الجمهور ليؤمن بها؛ الصورة والخيال والقدرة على القيام بكل الأدوار!

ما تخيّله نيكول كخطر فني، أصبح اليوم على وشك أن يتحول إلى حقيقة فاضحة، وذلك مع ظهور تيلي التي ليس ببعيد أن تتحول وأشباهها إلى نظام إنتاجي؛ دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال السينما يعني ببساطة أن الكاميرا لم تعد توثّق الإنسان، بل تخلقه، إننا على ما يبدو نغادر عصر محاكاة الجمال إلى زمن برمجته، ومن إدارة الصورة إلى استبدال الوجود نفسه بها. 

بدا فيلم S1m0ne وقت ظهوره وكأنه يستكشف علاقة السينما بالتكنولوجيا والنجومية الزائفة في عصر الإعلام الرقمي، حيث تدور قصته حول مخرج سينمائي يُدعى فيكتور تارانسكي (آل باتشينو) يواجه أزمة عندما تتركه نجمته المتقلبة أثناء تصوير فيلمه، فيلجأ إلى برنامج كمبيوتر ثوري ابتكره مبرمج عبقري راحل، يسمح بخلق ممثلة افتراضية بالكامل تُدعى سيمون (S1m0ne)، اختصار ذكي لمصطلح Simulation One مضيفاً إليها رقمي 1 و 0 هما الأرقام الأساسية التي كانت تشكل منها أكواد الديجتال قبل تطور البرمجيات.

تصبح سيمون ظاهرة عالمية؛ جميلة، موهوبة، غامضة، ومحبوبة من الجمهور إلى درجة الهوس، حتى مراقبيها من صحفيوا الفضائح يقعون في غرام آثارها التي يتركها فيكتور في كل مكان لخلق الإيهام بوجودها، رغم أنها ليست إنسانة حقيقية، وفجأة يجد فيكتور نفسه محاصراً بكذبة ضخمة، ويحاول التحكم في هذا الوهم الذي صنعه قبل أن يتحول ضده.

سيطرة الخيال

في الوقت الذي ظهر فيه الفيلم، كان الأمر أشبه بنقد لعبادة المشاهير وصناعة النجوم في هوليوود، وحمل تساؤلات حول الهوية والواقعية في الفن: أو بمعنى أبسط من هو الفنان الحقيقي؟ كذلك طرح بعض من علامات الاستفهام حول العلاقة بين المبدع وابتكاره، وكيف يمكن للخيال أن يسيطر على صانعه! 

ولكن بمرور الوقت ومع دخول عصر السيوشيال ميديا، والتطور الرهيب الذي شهدته أجهزة الهواتف الشخصية، راحت تأويلات الفيلم تتبلور أكثر كرؤية استباقية لفكرة “المؤثرين الافتراضيين” و”الذكاء الاصطناعي” قبل أن تصبح واقعاً فعلياً اليوم.

وبالمناسبة رغم أن الفكرة كانت ذكية وجريئة، إلا أن الفيلم تلقى تقييمات متوسطة إلى سلبية عند صدوره.

ورأى النقاد أن التنفيذ، بالإمكانيات المتاحة وقتها، لم يواكب قوة الفكرة، وأن الفيلم فقد توازنه بين الكوميديا السوداء والسخرية من هوليوود وبين الدراما الفلسفية.

لكن من يستطيع أن يقول هذا الآن بعد بزوغ تيلي نوروود ، هكذا يمكن أن يعاد النظر فيه كعمل استشرافي تنبأ بعصر صناعة المشاهير الافتراضيين.

يمكن القول أنه بالمعنى الرمزي، فإن “سيمون” هي “حواء الرقمية”؛ أول امرأة تُخلَق من خيال لا من ضلع، من كود لا من جسد، وهكذا اصبح الذكاء الأصطناعي أداة الخطيئة والمعجزة في آن واحد.

أما عن التنفيذ فإن الممثلة الافتراضية “سيمون” هي بالفعل إنسانة حقيقية من لحم ودم، اسمها راشيل روبرتس، عارضة وممثلة كندية الأصل.

لكن نيكول اختارها عمداً لأنه كانت شبه مجهولة في ذلك الوقت، لكي تُجسّد فكرة الإنسانة التي ليست موجودة أصلًا، أي حضور بلا سيرة، بلا خلفية، وبلا شهرة، وكانت مفارقة ذكية جداً في مستوى التمثيل؛ فـ”سيمون” هي كيان رقمي صُنِع بالكامل بالكمبيوتر وفي الواقع “سيمون”  تؤديها ممثلة حقيقية تُخفي جسدها خلف واجهة رقمية متخيلة.

جمال بلا هوية

نيكول بذلك لم يخلق فقط شخصية رقمية، بل خلق حالة ما بين الوجود والتمثيل، امرأة موجودة جسدياً، لكنها لا تُرى إلا كمفهوم.

بل يمكن القول إن اختيار راشيل روبرتس كان مقصوداً لتجسيد اللاوجود الجميل؛ جمال بلا هوية، حضور بلا سيرة، تماماً كما تخيّل الذكاء الاصطناعي لاحقاً في ظاهرة الـ”Avatars” والمؤثرين الافتراضيين مثل عارضة الأزياء الرقمية Lil Miquela.

وقد تعمد نيكول أن لا يُظهر سيمون أبداً في سياق واقعي ملموس، فكل ظهور لها يكون عبر شاشة داخل الشاشة، سواء شاشة عرض في غرفة المونتاج أوبث تلفزيوني أو إعلان أو مقابلة، بهذا الشكل ظلت الشخصية دوماً (ضمن وسيط)، أي محاطة بطبقة رقمية تفصلها عن العالم المادي.

والنتيجة هي ان الجمهور لا يرى جسداً، بل يرى (انعكاساً متقناً)، وكأنه من إنتاج خوارزمية.

استخدم الفيلم مزيجاً ذكياً من التقنيات البسيطة قبل زمن الـ CGI الكامل، مثل معالجة الإضاءة والسطوع حيث جعل وجه سيمون مضاءً بشكل غير طبيعي قليلًا، بإضاءة مسطّحة ناعمة بلا ظلال تقريباً.

والـ Soft Focus: حيث اللقطات ضبابية قليلًا، ما يعطي إحساساً بأن صورتها مصنوعة أو مفلترة، والدمج البصري في مشاهد معينة، حيث تم دمج صورة سيمون على خلفيات مصوّرة مسبقاً، لتبدو وكأنها ليست جزءاً فعلياً من المشهد، كذلك قام بمعالجة الصوت، حيث أخضع صوتها لتعديل طفيف في الترددات العالية ليبدو رقمياً ولامعاً.

كل هذا خلق إحساساً بأننا أمام صورة بلا عمق بشري، أي واجهة مثالية بلا روح! لكن “فيكتور”/ آل باتشينو، الذي ظن أن كذبته لن تصمد، يفاجأ بما تشظت إليه الأمور، مما يجبره على أن يعترف بأنها صارت حقيقة أكثر من الحقيقة نفسها، وكأنه يعلن انتقال الكاميرا من كونها وسيلة إلى كونها قوة خلق، تماماً كما يفعل الذكاء الاصطناعي اليوم حين “يُولّد” وجوهاً وصوراً من لا شيء.

هل هو حقاً منتصر؟

تجدر الإشارة إلى أن اسم “فيكتور تارانسكي” يوحي بجذور أوروبية شرقية أو روسية أو بولندية، Victor اسم شائع في أوروبا الشرقية، ويعني المنتصر وTaransky يحمل اللاحقة السلافية “-sky”، الشائعة في اللهجات الروسية. إذن المخرج أندرو نيكول اختار الاسم بعناية ليعطي الشخصية ملمحاً ثقافياً وفكرياً غريباً عن هوليوود الأميركية.

فيكتور تارانسكي ليس مجرد مخرج فاشل؛ هو فنان يؤمن بالجوهر الإبداعي الحقيقي وسط صناعة تستهلك الصورة وتُقدّس السطح.

واختيار اسم من شرق أوروبا يعكس المنفي الثقافي في عالم مادي والفنان المثالي القادم من خلفية فكرية عميقة في مواجهة آلة الرأسمالية الهوليوودية، وكأن نيكول يقول إن فيكتور (مهاجر فكري) داخل بلد غريب في صناعة لا تُقدّر الفن الحقيقي.

أدرك نيكول باكراً أن الذكاء الاصطناعي لن يبدأ بالآلة، بل بالخيال البشري، حين نحلم بالكمال في الصورة فإننا نبدأ باستبدال أنفسنا دون أن نعي،في الفيلم عند فوز “سيمون” بالأوسكار يجعلها فكتور تشكر كل الداعمين لها ماعدا فيكتور نفسه، وفي لحظة ما، كما في نهاية الفيلم عندما يتهم بقتلها ولا يصدقه أحد أنها ليست حقيقية، لا يجد بداً من الاعتراف بوجودها، بل والإنجاب منها (رقمياً) وهي اللحظة التي يصبح الخالق تابعاً لمخلوقه!

وهنا يمكن القول أن ما تنبأ به نيكول تحقق في زماننا، فلم نعد نحتاج الكاميرا لخلق الصور! فالذكاء التوليدي ينتج الوجوه، الأصوات، النصوص، من لا شيء! تماماً كما ولدت “سيمون” من شاشة فارغة و”هارد ديسك” لامع.

تولد اليوم آلاف الصور والأصوات (الحية) عبر الذكاء الاصطناعي، لقد تحولت “نظرة العين” من أن تكون رؤية بشرية إلى توقع خوارزمي، صارت الخوارزمية تحدد ما نراه، بل كيف نراه، حتى صار الواقع نفسه امتداداً لشيفرات التنبؤ والتمثيل!

في عام 2025، نرى تيلي نوروود تجسيداً واقعياً لهذا المفهوم؛ شخصية افتراضية صُممت بالذكاء الاصطناعي العميق، تمتلك حضوراً رقمياً متكاملاً (صوت، ملامح، انفعالات، مقابلات) تحظى بمتابعة وإعجاب جماهيري كما لو كانت إنسانة حقيقية! ما فعله نيكول كان تجسيداً مبكراً لمعضلة الخالق والمخلوق في عصر الذكاء الاصطناعي.

S1m0ne كان يسخر من فكرة أن الخيال يمكن أن يحل محل الواقع، لكن مع تيلي نوروود يحدث العكس؛ الخيال أصبح واقعاً جديداً لا مجرد بديل مؤقت. 

S1m0ne كانت وهماً تم تجسيده، أما نوروود أصبحت وهماً سوف يُنتج ويعمل ويُدار، والفرق الجوهري أن الخطر لم يعد في الإيهام السينمائي، بل في الاقتناع الرقمي، فالناس تعلم أنها افتراضية، لكنها مع ذلك سوف تتفاعل معها كما لو كانت بشراً! وهذا هو المدى الذي تنبأ به نيكول دون أن يراه وقتها، عندما يصبح الإنسان قادراً على خلق كائن رقمي يتفوق عليه في القدرة على الإقناع والتأثير.

عالم ما بعد النجومية

قد يعني ظهور تيلي نوروود الإعلان فقط عن ميلاد ممثلة جديدة، بل أفول مفهوم “النجومية” كما عرفته السينما منذ بدايتها.

فالنجم، في جوهره، كان دائماً هو الجسر بين الحضور والغياب، بين صورة تُعرض وجسد يُحتجب، أما الآن، فقد صار الحضور مكتملاً بلا غياب، والجسد محذوفاً بلا خسارة. لم يعد النجم مرآة لرغبة الجمهور، بل صار خوارزميةً تُغذّي تلك الرغبة وتعيد إنتاجها بلا حدود.

في عالم ما بعد النجومية، لن يعود الوهج حكراً على الممثلين الأحياء، بل على من يعرف كيف يُحاكي الحياة أكثر. هكذا تصبح سيمون نبوءةً فنية تحققت، وتيلي نوروود دليلًا على أن الذكاء الاصطناعي لم يسرق دور الممثل فحسب، بل استحوذ على معنى الوجود أمام الكاميرا،  فالسينما التي كانت فنًّا لرؤية الإنسان، ربما صارت غدا مرآةً لغيابه.

وبين “سيمون” التي كانت كذبة مقنعة و”تيلي” التي هي حقيقة مُصنَّعة، يُطوى السؤال الأخلاقي القديم عن الأصالة ليولد سؤالٌ آخر أكثر إرباكًا: هل ما زال علينا أن نؤمن بأن صناعة السينما تحتاج إلى النجم!!

*ناقد فني 

شاركها.