اخر الاخبار

مهرجان كان 78.. آري أستر يدخل في متاهة أميركا الضائعة

بعد عامين منذ آخر أفلامه Beau Is Afraiz, يعود المخرج الأميركي آري أستر في فيلمه الجديد Eddington من خلال المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، وهو يحمل على كاهله حملاً ثقيلاً من التوقعات، غير أن ما يقدمه هنا يبدو، على الرغم من طموحه الجامح، أقل من أن يرقى إلى ما اعتدنا عليه من هذا المخرج المتجدد، الذي بات خلال سنوات قليلة أحد أكثر الأصوات السينمائية إثارة للجدل والاهتمام في مشهد السينما الأميركية المستقلة، منذ ظهوره اللافت بفيلمه الطويل الأول Hereditary عام 2018. 

صحيح أن أستر ما يزال يمتلك تلك القدرة على صياغة مشاهد مشحونة بالغموض والتهكم اللاذع، وأنه يصر على فضح هشاشة البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع الأميركي، لكنه في هذا الفيلم، يبدو وكأنه، في غمرة محاولته استيعاب جنون اللحظة الأميركية، قد وقع هو الآخر في فخ تلك اللحظة، فلم يعد يرى العالم إلا عبر مرآة مشروخة.

منصة للثرثرة السياسية

يحاول Eddington أن يكون مرآة مجازية لواقع أميركا خلال لحظة ذروة جائحة كورونا في صيف 2020، ويختار أستر أن يعبر عن هذه اللحظة عبر قصة بوليسية سياسية متخيلة في بلدة صغيرة بنيو مكسيكو، حيث يرسم ملامح أزمة نفسية جماعية جاءت نتيجة عن العزلة، والخوف، وانعدام اليقين. 

ففي أميركا ترمب وما بعد ترمب، أصبح المواطن الأميركي العادي معلقًا بين رعب الجائحة، وخواء العزلة الرقمية، وعنف إعلامي لا يرحم، وتحول إلى تائه يعيش وفق ما تمليه عليه غرف الصدى المغلقة لوسائل التواصل، يتبنى الخرافات ويتخلى عن اليقين العلمي، يشتري الأكاذيب المعلبة بنهم، ويعيش حالة من انقسام الهوية الفردية والجماعية. 

يبدو التمهيد الفني للفيلم واعداً، إذ يضعنا في حياة شريف بلدة متمرد (خواكين فينيكس)، وزوجة مكتئبة (إيما ستون)، وأم متسلطة تؤمن بنظريات المؤامرة (ديدري أونيل)، ولكن سرعان ما يتبدد الوعد أمام سيل من الشعارات السياسية والاجتماعية الفجة.

يحاول أستر في فيلمه طرح أسئلة عن معاني الحقيقة، والسلطة، والانقسام المجتمعي، لكنه يفعل ذلك بنوع من الخطابية تفتقد الحس السينمائي الذي اعتدناه منه.

فبدلًا من أن يجعل من شخصياته أدوات درامية معقدة تنطق بما بين السطور، يسقط في فخ تحويلهم إلى أفواه تصرخ بشعارات مألوفة حول الإغلاق، والكمامات، وتتحدث عن حركات مثل “حياة السود مهمة BLM” وQ Anon، و Pizzagate، وغيرها من ملامح مشهد ما بعد الحقيقة الأميركي.

يعاني Eddington من تضخم مفرط في مادته السردية، فيحوّل أستر كل مشهد إلى منبر لتحليل سياسي مباشر، أو لإطلاق نكات سمجة عن استلاب الإنسان الأميركي المعاصر.

وبينما كان في Hereditary و Midsommar يوظف الرمزية لخدمة عالمه السردي الكابوسي، نجده هنا يعلق تماماً في فخ الخطابة المباشرة، حتى يكاد الفيلم في كثير من لحظاته يشبه مقالة طويلة عن أميركا ترمب وما بعد ترمب، أكثر من كونه عملاً سينمائياً ينبض بالحياة.

السقوط في التكرار

ولا ينجو الفيلم حتى من السقوط في التكرار؛ إذ يعيد استخدام ذات النماذج التي ألفناها في الإعلام الأميركي خلال سنوات الجائحة، دون أن يضفي عليها تلك الطبقة من العمق والتحليل النفسي الذي تميزت به أعماله السابقة.

فالشريف “جو كروس”، مثلاً، يظل طوال الفيلم شخصية كارثية لا تتطور، تعاني من الهشاشة والضياع، لكن دون أن يمنحها أستر لحظة استنارة حقيقية أو تحطيم ذاتي كما فعل مع أبطاله السابقين، وحتى أداء فينيكس، يبدو هنا مفتعلاً، مكرراً، ويفتقد إلى أي لمسة تميز أو توتر داخلي.

أما من الناحية البصرية، وهي سمة لطالما تميزت بها أفلام أستر السابقة عبر شراكته مع مصورين من طراز رفيع، فإن Eddington يبدو خالياً من ذلك الحس الجمالي المتوتر الذي بعض أعماله السابقة، فالتصوير يبدو روتينياً، خالياً من الإبداع، وكأن السيناريو المثقل بخطابيته أنهك الفريق الفني، وأفقده الرغبة في التجريب البصري.

حتى الموسيقى التصويرية، رغم أنها تضيف بعض الأجواء المشحونة، إلا أنها تبدو كأنها تنتمي لفيلم آخر أكثر رعباً وكابوسية من هذا العمل الذي يغرق في تكديس الأحداث والعقد دون نتيجة.

ماذا تبقى من أستر؟

يمثل Eddington في تقديري ذروة أزمة آري أستر الفنية الحالية؛ فهو مخرج أراد أن يواكب اللحظة السياسية الراهنة، لكنه لم ينجح في خلق لغة سينمائية جديدة تتسق مع هذه اللحظة. 

في سعيه المحموم لتحليل مرض المجتمع الأميركي، فقد أستر تلك الروح التي جعلت من أعماله الأولى أكثر من مجرد أفلام رعب؛ لقد كانت تجارب نفسية كاشفة لجروح عميقة. أما هنا، فما لدينا ليس سوى ملصق سياسي ضخم يتغذى على استهلاك الجمهور للجدل الرائج دون تقديم أي جديد، فهو من جهة، لا يفقد شجاعته في فضح الوجوه القبيحة للمجتمع الأميركي، ولا يتردد في ملامسة التابوهات السياسية والاجتماعية المشتعلة، لكنه من جهة أخرى، يسقط في فخ استعراض الأفكار الكبرى على حساب اللغة السينمائية الحية.

وربما كانت إحدى أزمات الفيلم تكمن في أنه يعيد إنتاج ما فعله تود فيلد بشكل أكثر دقة وذكاء في Tar، حين واجه سؤال السلطة والفن والهوية داخل حجرة موسيقية؛ بينما أستر هنا يختار أن يصيح في الساحات العامة، دون أن يترك أثراً يُذكر.

Eddington هو محاولة غير موفقة من مخرج كان يعد من أكثر الأصوات تجديداً وتميزاً في السينما الأميركية المستقلة، لكنه في هذا الفيلم، يقدم عمل مشتتاً، وأقل من مستوى طموحه الشخصي والفني، وكأننا أمام مخرج غارق في متاهة المرآة الأميركية المكسورة، غير قادر على التقاط شظاياها بعين سينمائية حقيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق