عاد أحمد الحواط، الحاصل على درجة الدكتوراة في العلوم الإنسانية بقسم التاريخ، إلى سوريا محملًا بأمل جديد في أيلول الماضي، إلى البلد الذي غادره مجبرًا، بعد أن ألغى إقامته في ألمانيا، وسحب طلب اللجوء، وحزم حقائبه.
لم تكن العودة سهلة، لكنها كانت ضرورية بالنسبة إليه، كما روى ل، فعندما سقط نظام الأسد، وبدأت مرحلة جديدة كما يصفها، رأى نافذة ضوء، “البلاد تستعيد شكلها، والوزارة (وزارة التعليم) تعلن أنها ستستقطب الموفدين، وتعيد الكفاءات، وتسقط عنهم الملاحقات المالية والقانونية”.
مع التغيرات الكبيرة في سوريا، بدأ الأمل يتشكل لدى الموفدين السوريين في الخارج، شكّل أحمد ورفاقه مجموعات، وصاغوا مبادرات لتشجيع العودة، وكان من أبرز ممثليهم، يسوق للإدارة، ويشجع على البناء، ويبحث عن أن يكون له دور في المرحلة المقبلة.
ثم جاءت التصريحات من وزارة التعليم العالي، “كل الموفدين سيعودون دون ملاحقة، سنستفيد من كل كفاءة، لن نعطل أي عودة”، إذ اعتبر الأمر رسميًا، ولم يتردد، ولم يستمع إلى نصائح أصدقائه بعدم العودة، سحب طلب اللجوء، عاد، ووقف أمام أبواب جامعة “حمص” التي خرج منها يومًا.
ناقشت ملف الموفدين السوريين في الخارج، في عدة تقارير موسعة سابقة، في إطار متابعتها للقضية، بالإضافة إلى حضور عدد من الاجتماعات مع الموفدين وسماعهم، حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
رحلة محبطة بين الجامعة والوزارة
في الجامعة، حمل أحمد الحواط ملفه ودخل المكاتب بثقة، تصريحات الوزير، والمعاون، والرئاسة كانت واضحة “أي موفد يعود، تسوى أوضاعه فورًا”.
لكن ما واجهه كان الصدمة الأولى في رحلة العودة، بحسب تعبيره، إذ وقف أحمد “مصدومًا” في أحد الأيام أمام مدير التنمية البشرية في جامعة “حمص”، ليستمع إلى جملة واحدة غيرت كل شيء: “أنت لست مشمولًا، وأنا لست منفذًا”.
“بهذه البساطة”، يصف الحواط رد فعله حينها متفاجئًا، قرار مصدق من الوزير، ومؤكد من معاونه، ومثبت من الشؤون القانونية، في الوزارة، يسقط بكلمة موظف واحد لا يملك صفة قانونية، دون أن يستشير أحدًا.
وكان الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، منح الموفدين السوريين في الخارج، مهلة سنة لاستكمال إجراءات التعيين، في حال حصلوا على المؤهل العلمي المطلوب في قرار الإيفاد بعد تاريخ 15 من آذار 2011.
موفدون: المرسوم “97” غير شامل ولا يشجع على العودة
عاد الشعور ذاته الذي حاول أحمد الهرب منه سابقًا يتملكه، الإهانة، اللايقين، وانهيار الثقة، بحسب ما قاله ل، “نحن طلعنا نحافظ على كرامتنا، مو لنرجع لتنهان كرامتنا”.
رغم كل التأكيدات من الوزارة، ورغم رسائلها الخطية، ورغم أن الشؤون القانونية قالت إنه مشمول بالمرسوم بشكل صريح، رفضت الجامعة، ولم تنته المسألة عند الرفض فقط، بل بالطريقة التي وصفها بـ”الإساءة، والعبث الإداري، وقرار شخصي من موظف واحد”.
يتساءل أحمد، “كيف موظف بلا صفة قانونية يرفض قرار وزير؟ وين بدي أشتكي؟ الوزير ومعاون الوزير قالوا مشمول، مدير الشؤون القانونية قال مشمول، بيجي مدير تنمية وبيقول لأ”.
| ملخص عن الكتب الرسمية خلال رحلة أحمد الحواط، كما ذكرها، وحصلت على نسخة منها:
صدر بتاريخ 3 من تشرين الثاني الماضي، عن معاون الوزير للشؤون العلمية و البحث العلمي القرار رقم “1352” و المتضمن شمولي الصريح بأحكام المرسوم “97” لعام 2025 وتعليماته التنفيذية رقم “12” و تسوية وضعي وفق أحكامه، كما أكد مدير الشؤون القانونية في الوزارة في كتابه الصادر بتاريخ 2 من الشهر نفسه، أن المعيد العائد من الإيفاد قبل صدور المرسوم رقم “97” لعام 2025، و لم يستكمل إجراءات تعيينه من الفئة المشمولة بأحكام المرسوم. وقد وافقت اللجنة التنفيذية للبعثات العلمية في جامعة “حمص” في جلستها بتاريخ 9 من تشرين الثاني الماضي، بالقرار رقم “53” على تسوية وضعي وفق الكتاب الوزاري و المرسوم الرئاسي المذكور آنفًا، وتم رفع الموضوع إلى مديرية التنمية الإدارية في الجامعة لصياغة مشروع قرار التسوية أصولاً. في 18 من تشرين الثاني، أرسلت مديرية التنمية الإدارية في الجامعة بيان وضع إلى الوزارة يحمل الرقم “801” أكدت فيه عدم شمولي بالمرسوم التشريعي، دون الإشارة إلى القرارات الوزارية و قرار اللجنة التنفيذية التي تمثل أساسًا قانونيًا ملزمًا. ردت الوزارة على كتاب مديرية التنمية، بالكتاب رقم “1540” بتاريخ 26 من تشرين الثاني، مؤكدة على مضمون الكتاب رقم “1352” و ضرورة التقييد بمضمونه. رغم ذلك و خلال مراجعتي الأخيرة للجامعة في 9 من كانون الأول الحالي، رفضت مديرية التنمية في الجامعة التقييد بكتب الوزارة و رفضت بشكل صريح و واضح إعداد مشروع القرار، مؤكدة عدم شمولي بأحكام المرسوم و تعليماته التنفيذية، رغم تأكيد الوزارة على شمول حالتي بالكتب السابقة الصادرة عن الوزارة. |
انتشرت قصة أحمد الحواط، وما حصل معه في سوريا، بشكل سريع ومؤثر في مجموعات الموفدين السوريين في الخارج، إذ يعتبر أحمد أحد الأشخاص الموثوقين في التعامل مع ملف الموفدين، بحسب ما رصدته في المجموعات الخاصة بهم، وحصلت عليه من خلال محادثتها مع عدد منهم، إذ كان لحادثته الأثر لدى الكثير منهم للتراجع عن فكرة العودة، وعدم الثقة بالوعود المقدمة إليهم.
“50% ما رح يرجعوا، ليش يرجعوا؟ نحن طلعنا نحافظ على كرامتنا”، يقول أحمد.
القرار رقم 1352 المتضمن شمول أحمد الحواط بأحكام المرسوم 97 لعام 2025 وتعليماته التنفيذية رقم 12 و تسوية وضعه – 3 تشرين الأول 2025 ()
رحلة الإيفاد والعودة فاللجوء
استرجع أحمد الحواط، الدكتور في التاريخ، خلال عدة لقاءات مع في دمشق وعبر اتصالات هاتفية في أثناء وجوده في ألمانيا، الدافع وراء خروجه من سوريا وعدم استكمال أوراق إيفاده بعد عودته فور انتهاء مدة إيفاده في أواخر عام 2022.
يقول أحمد، إنه حين كان موفدًا، لم يكن لديه خيار مباشر للخروج إلى أوروبا، حاول أن يحول طريقه لكنه لم يستطع، فاضطر للعودة إلى سوريا، بعد سبع سنوات ونصف من إيفاده، ليكتشف بعد عشرة أيام فقط من وجوده فيها، أنه أصبح مطلوبًا للخدمة العسكرية.
يشرح خلال سرده روايته، أن الجامعة كانت تتلقى كل عام في شهر كانون الأول كتبًا رسمية من رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع تطالب بصور عن دفتر الخدمة وأوراق التأجيل، لكنه كان قد زار سوريا حديثًا، وهو متخلف عن الخدمة، وغير قادر على تقديم أي ورقة.
اضطر لتقديم طلب تأجيل من شعبة التجنيد، لكن عمره الصغير، والإجراءات طالت بشكل غير مبرر، متابعًا أن الضغط عليه لم يكن عسكريًا فقطـ، إذ وصف كيف كان الفساد منتشرًا بشكل “لا يوصف” ضمن أروقة الجامعة حينها، وكيف كانت عناصر الأمن تضغط على الكادر التدريسي، وكيف أحيل كثير من الأساتذة للتحقيق.
يؤكد خلال حديثه، أنه لم يكن يريد ظلم أحد آنذاك، ويضيف، “أنا شخص ما بدي أخدم جيش، وما عندي قدرة أبقى ببلد محكم بهذه القبضة الأمنية القوية”.
بعد أربعة أشهر من تواجده في سوريا، حصل على تأجيل خدمة عسكري، لمدة ستة أشهر، تعرض خلالها للضرب من قبل عدة أشخاص، مما اضطره، لتركيب صفيحة معدنية في ساقه، جعلته عاجزًا عن الحركة، وغير قادر على السفر بسرعة.
بمجرد أن استطاع المشي على قدمه، بدأ أحمد خطوات خروجه بشكل غير شرعي (بحرًا)، عبر لبنان وليبيا الذي وصل إليها بعد ثلاثة أشهر قضاها في الصحراء. ليصعد بعدها “مراكب الموت” كما وصفها كناية عن القوارب التي كانت تقل اللاجئين السوريين الهاربين من نظام الأسد، ليصل إلى إيطاليا، مريضًا، مرهقًا، ومن ثم إلى ألمانيا، التي بدأ فيها حياة جديدة من تعلم اللغة والانخراط ضمن المجتمع.

صورة عن جواز سفر أحمد الحواط لحظة دخوله ليبيا – 6 تموز 2023 ()
بيان الموفدين السوريين بذكرى التحرير
امتزجت حلاوة الذكرى الأولى لتحرير سوريا وسقوط نظام الأسد في وجدان الموفدين بمرارة إرث من الظلم ما زال قائمًا على من لم ترفع عنهم بعد الأعباء القانونية والإدارية التي خلفها النظام السابق.
أصدر الموفدون، في 8 من كانون الأول الحالي، بيانًا (اطلعت عليه)، لخصوا فيه معاناتهم خلال عام ومطالبهم المستمرة إلى حين تسوية أوضاعهم.
وأوضح البيان، أن هناك موفدين غير قادرين على العودة لأسباب مختلفة، وقد أصبحوا مضطرين اليوم إلى التسوية المالية بعدما رفضوا (بدافع وطني وأخلاقي) التسويات مع النظام السابق، حتى لا تكون أموالهم عونًا له، بالإضافة إلى موفدين قادرين على العودة لكنهم ما زالوا مكبلين بإجراءات قانونية وإدارية عطلت عودتهم وحرمتهم من حقهم في الإسهام ببناء الوطن.
وبحسب البيان، فإن ملف الإيفاد لم يكن يومًا ملفًا إداريًا مجردًا، بل تحول في عهد النظام السابق إلى أداة قمع، ومجال لتطبيق مراسيم “جائرة” بأثر رجعي تخالف أبسط مبادئ العدالة والإنصاف.
وأمضى الموفدون عامًا كاملًا من الحوار والتشاور المسؤول مع وزارات التعليم العالي والبحث العلمي والمالية، قدموا خلاله رؤى واضحة ومتوازنة تحفظ للدولة حقوقها، وتصون للموفدين كرامتهم واعتبارهم، وتعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، بحسب البيان.
وشددوا على مطالبهم بإغلاق هذا الملف بما ينسجم مع روح الجمهورية الجديدة، عبر إصدار المراسيم المنتظرة التي تعالج جانبيه المالي والإداري معالجة عادلة وشاملة تتضمن:
- معالجة مالية تراعي ظروف الموفدين غير القادرين على العودة، في الزمن المنظور، وتتيح لهم تسوية منضبطة ومستطاعة، تنبني على العدالة الإنسانية والاقتصادية والتعاقدية، وتأخذ في الاعتبار السنوات العصيبة التي عاشها السوريون خلال الثورة.
- معالجة إدارية ترفع ما بقي من عوائق وبيروقراطيات وإرث قانوني تجاوزه الزمن، بما يتيح للكفاءات العلمية (التي كانت ولا تزال رصيدًا إنسانيًا واستثمارًا علميًا لسوريا) العودة إلى مواقعها الأكاديمية والمهنية للإسهام في مشروع إعادة إعمار الإنسان والمؤسسات والدولة، معتبرين أن الوفاء لهذه الطاقات هو وفاء لسوريا نفسها.
واختتم الموفدون بيانهم بمناشدة الجهات المعنية لاستكمال خطوات التحرير عبر إصدار المراسيم والإجراءات التي تنهي هذا الملف جذريًا وبإنصاف يليق بتضحيات السوريين وانتظارهم الطويل.
موفدون: تعليمات المرسوم “97” تمييزية ومخيّبة.. وعود حكومية
مرتبط
المصدر: عنب بلدي
