اخر الاخبار

نفرتاري الجميلة .. 120 عاماً على اكتشاف مقبرتها

عبّر رمسيس الثاني، أشهر حكام مصر القديمة، عن حبه  لزوجته نفرتاري، ويعني اسمها جميلة الجميلات، بأن حفر لها معبداً في صخر أبو سمبل، كتب عليه “تلك التي تشرق الشمس من أجل حبها”.

 ولم يقف عند هذا الحد، بل شيّد لها في وادي الملكات في غرب الأقصر، على مساحة 500 متر، درّة مقابر مصر، التي مرّ 120 عاماً على اكتشافها بواسطة عالِم الآثار الإيطالي أرنستو سكياباريلي. 

يتناول هذا التقرير، كواليس الاكتشاف التاريخي للمقبرة وترميمها، الذي يعدّ نموذجاً مثالياً في حقل الآثار. ويدرس المجلس الأعلى للآثار في مصر، إمكانية إعادة فتح مقبرة الملكة نفرتاري في الأقصر، بعد أن جرى إغلاقها في مارس بهدف ترميمها. 

وكان الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار محمد إسماعيل، أعلن في تصريحات صحفية في أكتوبر، “أن المقبرة في حالة جيدة من الحفظ، وتمّ تكليف لجنة متخصّصة لقياس نسبة الرطوبة بالمقبرة، ودراسة إمكانية إعادة فتحها وفقاً لقواعد محدّدة، وعدد مدروس للزائرين”.

“قاعة الذهب”

تقع مقبرة نفرتاري في وادي الملكات بالأقصر، في منطقة خصّصها رمسيس الثاني لدفن عائلته، وتقع بجوارها مقبرة والدته توي، وعدد من بناته، على مساحة 500 متر، يقود إليها سلّماً مؤلفاً من 18 درجة إلى غرفة مربّعة، تتصل بردهة وحجرة مستطيلة، ويعدّ هذا الجزء الطابق العلوي للمقبرة. 

في الجانب الشرقي، هناك درج آخر يؤدي إلى غرفة الدفن أو “قاعة الذهب”، كما كان يسميها المصري القديم تقوم هذه الحجرة على أربعة أعمدة مربّعة، حفرت في جوانبها ثلاث غرف صغيرة . 

يقول كريستيان لبلان، عالم الآثار الفرنسي لـ”الشرق”: “استمرّ العمل في المقبرة ثلاثة أعوام، بواسطة فناني قرية العمّال في دير المدينة، الذين أخرجوا أجمل رسوم مصرية على الإطلاق”.

أضاف: “المقبرة استثنائية بمعنى الكلمة، وظهرت نفرتاري في حضرة المعبودات المصرية القديمة، وخصوصاً أمام إيزيس المعبودة الأم، ويعتبر تمثيلها مع نفرتاري، من أجمل مشاهد المقبرة، وكذلك صورها مع حتحور، التي تولت هي وحورس تقديمها للعالم الآخر. 

كواليس الاكتشاف  

قاد العمدة المصري بولس غطاس، حفائر العالِم الإيطالي أرنستو سكياباريلي في مصر، كأحد أكبر العمّال، إذ عمل تحت أمرته المئات من سكان القرنة في الأقصر، من البالغين والأطفال.

 ويروي سكياباريلي، مكتشف المقبرة في تقرير الحفائر، أنه كان يحلم باكتشاف قبر نفرتاري، وخصوصاً أن الدلائل كلها كانت تشير إلى وجودها في منطقة وادي الملكات.

يقول: “على مبعدة أمتار من قبر توي أم الملك رمسيس الثاني، عثر العمّال على درج يقود إلى مقبرة، لم يجدوا بداخلها تقريباً أي آثار، سوى حطام تابوت، وبقايا تماثيل خشبية صغيرة، وجزء من قدم موميائها، ولم ينتبه العمّال إلى جمال نقوشها، وصاحوا بصوت واحد باللغة العربية “فاضية فاضية”، أي أنها فارغة” . 

وما إن أشعل سكياباريلي مصباحه وقرأ اسم نفرتاري، حتى كاد يغمى عليه، إذ تحقّق حلمه أخيراً، وأصبح اسمه مرتبطاً بهذه المقبرة في علم المصريات، وتمّ تسجيله بحروف من نور، كمكتشف لأجمل مقبرة مصرية على الإطلاق.

نفرتاري ونفرتيتي

في هذه المقبرة أبدع الفنان المصري في تزيينها كما قال سكياباريلي، فهي المقبرة الوحيدة التي رسمها الفنان المصري بكل حب وتقدير، وتميّزت عن غيرها من مقابر مصر، بجمال ألوانها وجمال وجهها، الذي يكاد ينافس شهرة التمثال النصفي للملكة نفرتيتي. 

عمل سكياباريلي مديراً للمتحف المصري في تورينو منذ 1894 وحتى عام 1827، وقاد حفائر المتحف في مصر بين أعوام 1902 و 1920.

كما حفر في مناطق كثيرة منها هيليوبوليس، والجيزة، وأسيوط، والأقصر، وأسوان، وتُنسب إليه العديد من الاكتشافات، ومنها مقبرة الرحّالة الأوّل المعروف في التاريخ “حرخوف”، الذي قاد رحلات مصرية  حتى الجندل الرابع.

 وفي دير المدينة، اكتشف مقبرة خع وميريت، وهي من الناحية الأثرية أهم مقبرة مكتشفة بعد توت عنخ أمون. وفي وادي الملكات، اكتشف أهم مقابرها، ومنها زوجة رمسيس الثالث، الملكة تيتي وأولاده أمون حرخبشيف وخعمواس، وكان حلمه الأكبر الذي توّج به اكتشافاته عام 1904، مقبرة الملكة المصرية نفرتاري زوجة رمسيس الثاني، التي تعتبر “درّة مقابر مصر” . 

 وأطلق على سكياباريلي لقب “المكتشف المحظوظ “، نظراً لكثرة اكتشافاته وتنوّعها. 

ترميم المقبرة 

عام 1958، زار مصر مؤسس ورئيس معهد الترميم في روما شيزاري براندي، مقبرة نفرتاري، وذكر عنها في كتابه “Verde Nilo”، أو “النيل الأخضر”، الصادر باللغة الإيطالية، بأنها أجمل مقابر العالم وأكثرها تدميراً، وبحاجة للتدخل السريع لإنقاذها.

 صاحبه في هذه الرحلة تلميذه باولو مورا، أحد أهم مرمّمي لوحات الفريسكو في النصف الثاني من القرن العشرين. ظلّ مورا يحلم بإنقاذ المقبرة مستخدماً تقنيات حديثة ، تقوم على استخدام سوائل طبيعية من اختراعه، استخدمها في ترميم الكابيلا سيستينا بالفاتيكان. 

سبق هذا التدخل محاولات عدّة للترميم، بدأت بعد الاكتشاف مباشرة، وعام 1930 زار الملك فؤاد المقبرة وأمر بالتدخل السريع لإنقاذها.

عام 1940، أصدر عميد الأدب العربي طه حسين، وزير المعارف حينها، قراراً بترميمها، ورصد لها مئة جنيه مصري، وقام بالترميم مدير الأعمال في مصلحة الآثار الفرنسي، ستوبلير.

عام 1968، قدّم باولو مورا مشروعاً متكاملاً لترميم المقبرة، لم يتم اعتماده إلا عام 1986، بدعم سخي من مؤسسة “بول جيتي”،  بلغ 5 ملايين دولار، واستمر فريق مورا في العمل حتى عام 1992. 

 في مذكراته عن الترميم الملحمي للمقبرة، كتب المرمّم الإيطالي الراحل أدريانو لوزي: “أمضيت داخل مقبرة نفرتاري أجمل الأوقات على الإطلاق، هي عبارة عن 500 يوم خلال 6 سنوات، عملنا في كل شبر فيها، وقمنا بعمليات التنظيف والتهوية، وتركيب قطع متساقطة، وكان أكبر تحدّي أمامنا هو إزالة الإسمنت الذي تم استخدامه في الترميمات السابقة، مستخدمين مكانه خليطاً من الطمي والتبن، كما فعل قدماء المصريين”.

أضاف: “كانت هذه المقبرة جزءاً من حياتي، أسرتني نفرتاري كما أسرتني من قبلها مصر”.

كان من بين العاملين في مشروع الترميم البروفيسور الإيطالي جورجو كابريوتي، الذي استخدم تقنيات حديثة تقوم على نظرية معلمه مورا، انتهى العام الماضي من ترميم مقبرة امنحتب الثالث في وادي الملوك بالأقصر.

وعن مشكلات مقبرة نفرتاري، يقول كابريوتي: “إن السبب الرئيسي هو طبيعة الصخر في المنطقة قبل إنشاء المقبرة، ويصفها بأنها مشاكل جيولوجية، حيث ترسّبت مياه في صخور المنطقة المحيطة بالمقبرة، ما أدى إلى تكوين ترسّبات كبيرة من الملح، تتحرك بسبب الرطوبة بصفة دائمة، وأدت في بعض الأماكن إلى فصل طبقة الملاط والنقوش عن الصخرة الأم. كما كان تأثير الزلازل سلبياً على مكوّنات وحركة هذه الصخور” .

وأوضح أنهم استخدموا حينها “أحدث التقنيات والمعدّات لإزالة الملح المتراكم، وإزالة الألوان التي أضيفت خلال الترميمات السابقة”. 

وأشار إلى أن “التحدي الأكبر تمثّل في استبدال كميات كبيرة من الإسمنت والجص بمادة طبيعية، لا يرفضها صخر الجبل. وبدقة متناهية، تمّت إزالة الرسوم وإعادتها إلى مكانها الأصلي، بعد إزالة الملح الواقع خلفها، والسناج وأعشاش النحل، من دون إضافة أي ألوان حديثة”. 

افتتحت المقبرة رسمياً أمام الجمهور بداية القرن الحالي بتذاكر خاصة، ولعدد محدود من السائحين، لتقليل الرطوبة الناتجة عن التنفس داخلها. ورغم ذلك، تمّ إغلاق المقبرة أكثر من مرّة لدراسة حالتها. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *