هاشم تايه: السرير حليف الظلام ومنصة عبور إلى الحلم
في أزقّة محلة القشلة في العشّار، قلب محافظة البصرة، ولد هاشم تايه في بيت صغير مكتظ بأصوات الحياة وصخبها، وفي بيئة غارقة بهموم العيش اليومي، بعيدة عن عوالم الفن والجمال.
الطفل الذي نشأ في زحمة التفاصيل القاسية للحياة، سيشقّ طريقه بعد سنوات طويلة وتجارب قاسية، ليصبح واحداً من أبرز الأسماء في مشهد التشكيل العراقي.
هاشم تايه، فنان وكاتب من العراق، اختار أن يمنح المهمل والمتروك حياة جديدة، استمدّ من الأشياء البسيطة المنسية على الأرصفة وفي الشوارع، لغة فنية خاصة، حوّلها إلى خامات غنية، كأنه يعيد تشكيل العالم من بقاياه. كما اندفع إلى فضاءات أخرى، منها الشعر والقصة والكتابة الصحفية.
هنا يتحدث عن مسيرته الإبداعية لـ”الشرق”، وعن آخر إصداراته “السرير… الجسد في خلوته”.
في سيرتك نجد ألقاباً متعددة مثل الفنان والشاعر والناقد والقاص، أي منها يعبّر عنك؟
بين هذه الأشكال التعبيرية، ما يجذبني إليه بقوّة هو الرسم، لأنه هواي المبكّر، وما أنتجته فيه أوسع، وأشدّ إضاءة لمزاجي الفني. أما كيف أتعامل مع كل مجال، فذلك تفرضه الطبيعة الخاصة لهذا المجال الفني أو ذاك، بالاستجابة لشروطه لغة وخطاباً.
تركز في أعمالك على المهمل والمنسي، كيف تشرح توجهك في اختيار المواد مثل الورق والكرتون والمواد التالفة؟
هناك تعاطف يسكنني تجاه ما رثّ، وأبلاه الزمن من الأشياء المنفية في عالمنا، تعاطف يدفعني إلى محاولة إعادة هذه الأشياء إلى الحياة، وتجديد وجودها معنا في كيان آخر يجعلها جديرة بالبقاء.
الفن لغوياً كان أم بصرياً، هو الغرابة التي يمكننا أن نعدّها سمة مشتركة بين الفنون قاطبة، كما أن فاعلية أي فن، تكمن في تجريده الواقع من سماته المألوفة، ومن مظهره المعتاد، وجعله يستوي غريباً شكلاً ومحتوى.
الفن عموماً يحرّك الواقع دافعاً به من منطقة خاملة بلا احتمالات، إلى منطقة مرنة هي منطقة الاحتمالات المتنوّعة الحرّة. إن نزوعي نحو استثمار خامات غير تقليدية، ووقوعي تحت إغراء الرغبة في التجريب والاكتشاف، كان وراء اندفاعي للاهتمام بمواد الحياة المستهلكة، المنفيّة، التّالفة، وإعادتها إلى الحياة بطاقة الفن.
إنها مواد هشّة تماماً، ملائمة للتّعبير عن هشاشة الوجود الإنساني بصفة عامة، وهشاشة حياتنا نحن العراقيين، باضطرابها، وباحتمالات انقلاباتها المفتوحة في أي وقت.
إذن هو تعاطف مع المادة؟
المادة في هامش الحياة العارية تتعرّض في الفضاء العام، لضروب من التحولات، جرّاء فواعل متنوّعة، بينها فواعل البيئة. وتستقبل هذه المادة عادةً، آثاراً متباينة، يتغيّر معها شكلها، فتبدو وكأنها تختزن تعبيراً ما في مظهرها المتحوّل، الذي يمكن تطويره جمالياً ليصير أثراً فنياً مفارقاً.
هذا يمنح المادة فرصتها للمشاركة في إنتاج العمل الفني، بما تختزنه من ممكنات تعبير، بعيداً أو قريباً، من سلطة الفنان، وتحكّمه بمنتجه.
أقمت وشاركت في معارض كثيرة، لماذا النزوع إلى الكتابة الشعرية والنقدية والفنية؟
اضطراراً ذهبت إلى الأدب تحت تأثير إغراءات أدائه، ولي فيه كتابان شعريان هما “عربة النهار” (2007)، و”ضماد الأوقات” (2024)، وكتابان قصصيان هما “حياة هشّة” (2017)، و”العين والأثر” (2023).
على مدى مسيرتي الفنية حصل هذا التجاور بألفَته الشيّقة بين الرسم والشعر والقصّة، بتأثير عوامل عدّة، بينها مزاج الشخصي، إلى جانب التأثير الموضوعي لدراستي الأدبية، فضلاً عن فواعل الحياة بتقلباتها.
بالنسبة لي كان الشعر والقصّة احتمالين آخرين للرسم، الذي كان هو الآخر، احتمالاً فيهما. هذه الفنون عاشت على مدى تاريخها في تجاور، وتنافذ، واختراقات لبعضها على مستويات الأداء والتعبير.
لا ضير في أن تتنوّع وسائل التعبير الفني، وفي الحياة المعاصرة كسرت الحدود، ومعها اتسعت الآفاق، وتجدّدت الرؤى، وصار بالوسع الطيران بأكثر من جناح في فضاءات التعدّد والتنوّع.
يبدو نصّك النقدي وكأنه يخلق نصّاً جديداً يمكن قراءته بمعزل عن إطار النقد التقليدي.
ذلك لأني لست ناقداً مختصاً يمتلك منهجاً نقدياً محدّداً، ويستند إلى تنظير معرفي بعينه. النقد ليس وجهتي في حدوده الخطابية المرسومة، ولن يكون. من المهم، بل الحيوي أن يكون الفنان ناقداً يمارس النقد أم لا يمارسه؛ لأن النقد يجعله يعيش في جدل حيّ مع تجربته، ويضيء خطواته على مساره.
خلال مسيرتي الفنية اقتربت من تكوين مجموعة تصوّرات وأفكار في الفن التشكيلي، بصفة خاصة، هي خلاصة تأملاتي، وهي مبثوثة بلا انتظام أكاديمي مدرسي في كتابين في النقد التشكيلي هما “ترجمان البياض. العمل الفني تصوّراً ومزاجاً” الصادر هذا العام عن (دار خطوط وظلال)، و”الرسم والشعر. مشتركات الحياة والفعل”، الذي سيصدر قريباً عن (دار الشؤون الثقافية) في بغداد.
صدر لك كتاب “السرير الجسد في خلوته” الذي يتناول موضوع السرير بلغة تجمع بين الشعر والفن والتأمل البصري، لماذا اخترت السرير تحديداً؟
جاءت كتابتي “السرير الجسد في خلوته” استجابة لعرض قدّمه الصديق الفنان حسن عائد، ممثل (دار خطوط وظلال) في بغداد. قال لي إن الدار مهتمّة بإصدار سلسة كتب تحت عنوان “أشياء”، تتناول المهمّل، اللا مفكّر فيه، المنفي عن دائرة اهتمام الكُتّاب، وأغراني باختيار شيء منها مادة لكتاب.
فوراً أجبته بأني سأكتب عن السرير، وجاء اختياري لأسباب عدّة، بينها علاقتي التي ليست على ما يرام به؛ فأنا أصبحت منذ بضعة عقود، أخشى فعلَ النوم، وتُفزعني فكرة تسليمي جسدي لما يُشبه موتاً على منصّة محتجبة في غرفة مغلقة، تكون فيها حياتي رهينة قوى لا أعرف عنها شيئاً، وغالباً ما أوقعتني في الأرق.
السرير علامة على رمزية كبرى؛ فهو حليف الظلام، ومستوطنة غريزة، وقنطرة عبور إلى الحلم، وموقع فصلٍ وعزلٍ وغياب، وهو أوّل ما نقع عليه، وآخر ما نُحمَل منه. ولأني أخيراً معني بالمهمل والمنبوذ في ما أنجزت من أعمال فنية، لم يكن غريباً أن أكون مع السرير في كتاب تقاسَمَته اللغة والتخطيطات.
أما عن الكتاب، فضّلت كتابته بآلية الحياة المنوَّمة التي تحدث على منصّة السرير؛ فكتبته بتدفّق وتداعٍ وتخاطر.
هل يستكشف الكتاب التحوّلات المرتبطة بجسد الإنسانعبر السرير، أم الربط بين الإنسان وابتكاراته لفهم تطوّره بشكل أعمق؟
ما من أداة ابتكرها الإنسان على مدى تاريخه لتحسين شروط وجوده، إلا وهي تحوّل عميق في حياته، جسداً ووعياً، مهما تكن بساطة تلك الأداة.
وكوسيلة لتحسين شروط النوم، كان للسرير أثر كبير ليس في حدث النوم فحسب، بل في نظرة مصمّم أوّل الأسرّة إلى نفسه، ككائن أعلى يقف ندّاً للطبيعة، مستقلاً عنها، قادراً على خلق الوسائط، والبدائل والعيش فيها، ولهذا، يُعدّ السرير أسوة بغيره من الوسائل، لحظة تحوّل عميقة في تاريخ الجسد.
هذا الكتاب ليس كتاب باحث محايد يعمل بمنهجية موضوعية، وصرامة علمية، إنه كتاب فنان يعمل ويُفكّر ويصل إلى ما يريد بطاقة الحدس، وفي ضوء أحاسيسه.
وبالنظر إلى ما أنتجه الإنسان من أدوات ووسائل وآثار، بوسعنا أن نفهم هذا الكائن- الإنسان- باستبصار آثاري، فنتعرّف على اللحظة التاريخية التي عاش فيها، وطراز الثقافة لأشكال معيشه، وطبيعة وعيه، وأسلوبه في النظر إلى ما حوله، وإلى ذاته.
ماذا يعني أن ننتبه ونتأمّل ونكتب عن الأشياء الهامشية في الحياة كالسرير؟
يعكس الهامشي جانباً من حياتنا، وثقافتنا، ونظرتنا إلى ما حولنا. الانتباه إلى الأشياء المهملة وتأمّلها، والكتابة عنها، يعني اعترافاً بأن لا شيء في الوجود دون أهمية مهما تكن درجتها.
تُظهر الحياة مع الهامشي ألفة تعبّر عن رحابة الروح، واتساع النظرة، وقوّة القرابة الدافئة التي تعمّ أشياء العالم، وتصل الشيء بالشيء في وثاق الحياة، وتحالفها مع بعضها. شخصياً يسكنني تعاطف حميم مع المهمل، المستبعد من الأشياء، تعاطف طالما دفعني إلى الاستضاءة بقواها في أعمال أنجزتها في أوقات متفرّقة.
إذا أردنا أن ننظر الآن، إلى السرير الأوّل الذي ابتكره الإنسان، ونقارنه مع أسرّة اللحظة، كيف يمكن الفصل بينهما فنياً؟
أُنتِج السرير في البدائية المبكّرة، في ظل فقر الحياة الإنسانية وتخلّفها على عجلٍ، لتلبية مطالب الجسد، مكتفٍ بإنجاز النوم، وتأمين الحاجة إليه، دونما اهتمام أو احتفاء، أو تقدير لشكله.
على مدى تاريخه، شرع السرير يحصل على تلطيفات لمظهره، وتزيينات لشكله كي يتلاءم مع مكانة الفرد في وسطه الاجتماعي، فظهر سرير الكاهن، وسرير الزعيم، وسرير المحارب، بتنويعات تميّزها عمّا سواها من الأسرّة، وكان ذلك علامة على دخول السرير في خيال الإنسان الذي يهوى إسباغ الجمال على أدواته ووسائله، لتكون جاذبة إلى جانب كونها مفيدة عمليّاً.
يمكننا القول إن السمات الجمالية المُضافة التي تطال أشكال الأسرّة، بوعي وقصد وإدراك، خارج وظائفها العملية، هي ما يفصل فنياً سريراً عن سرير. وقد غدت معارض الأثاث البيتي، اليوم، متاحف لأشكال لا حصر لها من الأسرّة الفريدة التي تعكس أنواع الثقافات الإنسانية المعاصرة.
في علاقة السرير بالنوم تقول في الكتاب إن النوم يمتثل ويستجيب للفن، كيف ذلك؟
يحرّرنا السرير مؤقتاً من الواقع. تلك هي فاعليته الكبرى، وإحدى مزاياه الجاذبة، وسحره الذي لا يُقاوَم. إن السرير منصّة عروض تمثيلية تُعاد فيها وقائع الحياة مقلوبة رأساً على عقب، عابثة على أعرافنا، وتحفّظاتنا. وهذا كله فعل النّم على الأسرّة، وهو أقرب إلى فعل الفن.
إن الفن الذي هو نتاج حلم بصيرورة مبتكرة، مغرية، مدهشة، تشبه تلك الواقعة على سرير، هو إلى آخر ثانية من الليل، حلم لا يودّ أن يستيقظ، كالفن تماماً.
في الجزء الأخير من الكتاب، تتناول حكايات قصيرة عن تجارب إنسانية مع السرير والنوم.
هذا الأسلوب من المعالجات أراه انعكاساً لطبيعة موضوع الكتاب، السرير الذي يستقبل جسداً، وسرعان ما يضعه تحت طائلة فعل النوم. وهذا الفعل يتصرّف حراً، فيجرّ إلى منصّته وقائع شتى، ويتحدث بأكثر من لغةٍ واحدة، ويعرض صوراً بلا كوابح. في هذا الخليط الفوضوي تنفتح الفرص أمام اللغة فتتناثر شعراً، وتتدفّق سرداً، وتسترخي تأمّلاً دون أدنى حرج.
ربما يتوافق هذا مع مزاجي، ونزوعي في إنشاء تكويناتي. أنا ابن تشرّدي بين النصوص المتضاربة، ابن اختلاطاتي، وتيهي حولها وفيها.