بسطت قوات الدعم السريع سيطرتها على حقل “هجليج” النفطي، ذو الأهمية الاستراتيجية في ولاية جنوب كردفان، ما ألقى بظلال ثقيلة على مستقبل قطاع النفط في كل من السودان وجنوب السودان.
ويُعد هذا التطور إنذاراً بتداعيات اقتصادية واستراتيجية بالغة التعقيد، تتجاوز تأثيراتها الحدود الجغرافية لتصل إلى عمق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلدين.
ويُعتبر حقل “هجليج” منشأة محورية في منظومة إنتاج ونقل النفط في الدولتين، إذ لا يقتصر دوره على كونه موقعاً رئيسياً لإنتاج النفط السوداني، بل يشكل مركزاً أساسياً لمعالجة نفط جنوب السودان، ونقطة عبور حيوية لصادراته عبر شبكة خطوط الأنابيب الممتدة إلى ميناء بشائر في بورتسودان ما يجعل أي اضطراب أمني أو تشغيلي فيه ذا أثر إقليمي واسع.
وقد يترتب على هذه السيطرة فقدان “الخرطوم” كامل إنتاجها النفطي، بالتزامن مع توقّف صادرات نفط “جوبا” التي تُعالج داخل الحقل، الأمر الذي يعمق حدة الأزمة الاقتصادية، ويضاعف تعقيدات المشهد السياسي والأمني في المنطقة.
ويمثل توقف معامل الحقل خسارة جسيمة لجنوب السودان، الذي يعتمد على النفط كمصدر لأكثر من 90% من إيراداته من العملات الأجنبية، فيما يخسر السودان، وفق تقارير، نحو 20 ألف برميل من الخام يومياً، إلى جانب رسوم العبور والتصدير التي تُقدَّر بملايين الدولارات.
مباحثات مشتركة
مصادر مطلعة كشفت لـ”الشرق” عن بدء مباحثات مشتركة بين السلطات في السودان وجنوب السودان بشأن ملفات النفط، وذلك عقب وصول وفد رفيع المستوى من جوبا إلى بورتسودان.
وقالت المصادر إن الوفد، الذي ضم مسؤولين أمنيين وعدداً من الوزراء في جنوب السودان، التقى فور وصوله برئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، تمهيداً للتوقيع على اتفاقيات ثنائية بين البلدين.
وأضافت أن وزير النفط السوداني، ووزير النفط بالإنابة في جوبا، يناقشان ملف النفط والأوضاع في حقل “هجليج”، في إطار مساعٍ مشتركة لاحتواء التطورات الأخيرة، وتعزيز الشراكات النفطية بين البلدين.
وأكّدت المصادر نفسها أن الاجتماعات ستتواصل بعقد جلسة مشتركة، يعقبها انعقاد اجتماعات منفصلة لكل وفد على حدة، على أن تُستأنف لاحقاً بلقاء مشترك آخر.
وأضافت أن مسؤولين أمنيين وعسكريين سودانيين سيعقدون لقاءات مع نظرائهم من جوبا، بالتوازي مع اجتماعات بين مسؤولي النفط في البلدين.
وقال وزير الطاقة والنفط السوداني المعتصم إبراهيم أحمد، أثناء استقباله وفد جوبا: “تربطنا مع دولة جنوب السودان علاقات تاريخية، ومصالح مشتركة في عدد من المجالات على رأسها النفط”.
ويترأس وفد جوبا توت قلواك، المستشار الأمني لرئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، ووزير الخارجية، ومدير الاستخبارات العسكرية، ووكيل وزارة النفط، إلى جانب مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى من وزارات النفط وشركات البترول، لمناقشة ملفات التعاون المشترك وترتيبات الحدود وقطاع النفط.
انعكاسات اقتصادية
اعتبر وزير الطاقة السوداني الأسبق، جادين علي عبيد، في حديثه لـ”الشرق” أن سيطرة الدعم السريع على منطقة هجليج تمثل تطوراً بالغ الخطورة، لما تحمله من تداعيات اقتصادية جسيمة على السودان، وتأثيرات سلبية مباشرة على دولة جنوب السودان.
وأوضح عبيد أن توقف النشاط النفطي في حقل “هجليج” يعني عملياً خروج السودان من دائرة الإنتاج النفطي بالكامل، إذ تفقد الخرطوم ما يتراوح بين 30 و40 ألف برميل يومياً من إنتاجها المحلي، إلى جانب خسارتها لعائدات خدمات معالجة ونقل نحو 50 ألف برميل يومياً من نفط جنوب السودان.
وأضاف أن الموارد المتبقية للسودان من قطاع النفط باتت محدودة، وتقتصر حالياً على رسوم عبور جزء من نفط الجنوب الذي يمر عبر الأراضي السودانية، لا سيما عبر خط الأنابيب الممتد في ولاية النيل الأبيض مروراً بمحطة الجبلين.
وأشار وزير النفط السوداني الأسبق إلى أن جوبا لا تملك العدد الكافي من الخبراء المتخصصين في قطاع النفط لتشغيل الحقل بشكل مستقل. وأكد أنه في هذه المرحلة، لا حاجة لمحاولات إقناع المهندسين الصينيين أو غيرهم بالمشاركة في عمليات التشغيل.
وفي المقابل، أوضح أن الاستعانة بالمهندسين السودانيين كأطراف محايدة لتشغيل الحقل يعد الخيار الأنسب، والأكثر واقعية في الظروف الحالية.
تساؤلات داخلية
من جهته، قال رئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، إن دخول قوات من جنوب السودان إلى حقل هجليج “لا يمكن أن يتم دون تفاهم غير معلن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وحكومة جوبا”، معتبراً أن تصريحات حكومة جنوب السودان، المصحوبة بصمت الأطراف السودانية، تؤكد هذا الاحتمال.
وانتقد الدقير ما وصفه بالمفارقة، قائلاً: “إذا كان التفاهم ممكناً من أجل النفط، فلماذا لا يكون ممكناً من أجل السلام الذي يحمي الإنسان؟”، داعياً إلى تحويل إرادة حماية المنشآت النفطية إلى إرادة سياسية حقيقية لحماية المدنيين ووقف الحرب.
مصالح استراتيجية
ويقول المحلل السياسي من جوبا، صموئيل دينق، لـ”الشرق”، إن بلاده اختارت تبنّي موقف الحياد في الحرب السودانية، معتبراً أن هذا الخيار يعكس سعي القيادة في جنوب السودان إلى تجنّب الانخراط في الاستقطابات السودانية، مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية واستقرار علاقاتها الإقليمية.
وأوضح دينق أن توقف إنتاج النفط منذ اندلاع الحرب يلحق ضغوطاً كبيرة بالاقتصاد الجنوب سوداني، الذي يعتمد بشكل شبه كامل على عائدات النفط.
ويعزز هذا التقدير ما أوردته تقارير أممية عن تراجع صادرات البلاد النفطية بشكل ملحوظ، ما وضع جوبا تحت ضغط مالي غير مسبوق وقلّص قدرتها على المناورة الاقتصادية والسياسية.
وأمام هذه المعطيات، يرجح دينق أن جوبا تتجه إلى إعادة تقييم خياراتها الاستراتيجية على المدى المتوسط والبعيد، بما في ذلك البحث الجاد عن بدائل تقلل اعتمادها على السودان كممر وحيد لصادرات النفط.
وفي هذا الإطار، يعود إلى الواجهة خيار إنشاء خط أنابيب بديل عبر كينيا أو إثيوبيا وصولاً إلى المحيط الهندي، رغم التحديات المرتبطة بالكلفة العالية، والبيئة الأمنية الإقليمية المعقدة.
تحذير من كلفة التوقف
ويشير الخبير في القطاع النفطي، المهندس إسماعيل محمد، في حديثه لـ”الشرق”، إلى أن “توقف إنتاج النفط في حقل هجليج، الذي يُقدّر إنتاجه اليومي بحوالي 90–100 ألف برميل، له تأثيرات كبيرة على البنية التحتية للمنشأة وعلى الاقتصاد في الخرطوم وجوبا”.
ويضيف إسماعيل أن التوقف المستمر يؤدي إلى خسائر مالية مباشرة نتيجة انخفاض العائدات النفطية، كما يفاقم آثار الإهمال على المعدات، وشبكات النقل، وخطوط الأنابيب، ما يزيد من كلفة إعادة التشغيل لاحقاً، ويهدد استدامة الإنتاج على المدى المتوسط.
ويؤكد الخبير النفطي أن “أي فترة توقف طويلة تجعل إدارة الحقل أكثر تعقيداً، مستدعياً تدخل فرق فنية متخصصة، سواء من جنوب السودان أو عبر شركات دولية، لضمان تشغيل الحقل بكفاءة دون الإضرار بالبنية التحتية أو سلامة الإنتاج”.
وشدد على أن الصيانة الدورية وإدارة الموارد البشرية المؤهلة تُعد من العوامل الأساسية للحفاظ على استمرارية الإنتاج.
حقل استراتيجي بالأرقام
ويقع حقل هجليج النفطي العملاق قرب الحدود مع جنوب السودان، على بعد نحو 45 كيلومتراً غرب منطقة “أبيي” في ولاية جنوب كردفان. ويضم الحقل نحو 75 بئراً نفطية، أهمها “مربع 6″، وهو الأكبر من حيث الإنتاج.
ويُعد الحقل أحد الأعمدة الرئيسة لقطاع النفط السوداني، إذ يمد مصفاة الخرطوم بإمدادات الخام، ويدعم الاقتصاد الوطني عبر التصدير بواسطة خطوط أنابيب يبلغ طولها نحو 1600 كيلومتر، وصولاً إلى ميناء بشائر بمدينة بورتسودان.
كما يضم الحقل منشآت حيوية تشمل محطة الضخ الرئيسة، ومحطة معالجة الخام، وخزانات الوقود، ومحطة لتوليد الكهرباء.
