تقترب الصين من تحقيق “إنجاز” بشأن تقليل الاعتماد على استيراد النفط، وذلك بعد عقود كان خلالها الاحتياج الصيني محركاً للطلب العالمي، وذلك وسط ترجيحات ببدء تراجع الاستهلاك بعد نحو 3 أعوام من الآن، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”.

وأشارت الصحيفة إلى توقعات بأن يبلغ الاستهلاك الوطني للنفط المستورد في الصين ذروته بحلول عام 2027 قبل أن يبدأ في التراجع، مستعرضة رحلة بكين نحو الوصول إلى هذا الهدف.

وأوضحت أن المسؤولين الصينيين يشعرون منذ فترة طويلة بالقلق من أن تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من شل اقتصاد البلاد عبر قطع إمداداتها من النفط الأجنبي.

وأضافت أن الصين ضخت الصين مئات المليارات من الدولارات لتقليص اعتمادها على النفط المستورد، من خلال إحياء الإنتاج المحلي وبناء صناعة السيارات الكهربائية الرائدة عالمياً بوتيرة سريعة. واستشهدت الصحيفة بما قاله الرئيس الصيني شي جين بينج: “الطاقة مثل وعاء أرز.. يجب أن يكون في أيدينا نحن”.

حفر في “بحر الموت”

في منطقة نائية من الصين تُعرف باسم “بحر الموت” بسبب ظروفها القاسية، يحاول عمال النفط استخراج المزيد من الخام من باطن الأرض عبر حفر آبار بعمق يوازي ارتفاع جبل إيفرست (أكثر من 8 آلاف و800 متر) وفق “وول ستريت جورنال”.

وسجلت شركة PetroChina المملوكة للدولة إنفاقاً رأسمالياً بلغ 38 مليار دولار في العام الماضي، وهو ما يقترب من إجمالي ما أنفقته شركتا Exxon Mobil و Chevron معاً.

كما رفعت الصين إنتاجها النفطي بنسبة 13% بين عامي 2018 و2024 ليصل إلى نحو 4.3 مليون برميل يومياً. وتراجعت واردات الخام بنحو 2% العام الماضي، لكنها عاودت الارتفاع قليلاً هذا العام مع قيام بعض الشركات الصينية بتكوين مخزونات.

وتتوقع كبرى شركات النفط الحكومية في الصين، إلى جانب وكالة الطاقة الدولية، أن يبلغ الطلب الصيني على النفط ذروته خلال عامين، في حين أن الطلب على البنزين والديزل بلغ ذروته بالفعل.

وتوقعت “وول ستريت جورنال” ألا تتوقف الصين عن استيراد النفط، موضحة أنها لا تزال تستورد نحو 11 مليون برميل يومياً، أي ما يعادل نحو 70% من استهلاكها، مقارنة بأقل من ثلاثة ملايين برميل يومياً قبل 20 عاماً.

أسواق الطاقة العالمية

ويُرجح أن يتراجع استهلاك النفط في الصين بشكل تدريجي فقط، مع استمرار نمو الطلب على النفط في صناعة البتروكيماويات. ومع ذلك، فإن حملة شي ستترك تداعيات على أسواق الطاقة العالمية، إذ يُتوقع أن تتلاشى واردات نفطية صينية بمليارات الدولارات خلال السنوات المقبلة.

وفي يونيو الماضي، خفضت وكالة الطاقة الدولية، ومقرها باريس، توقعاتها للطلب الصيني خلال الفترة من 2028 إلى 2030 بأكثر من مليون برميل يومياً مقارنة بتقديراتها في العام السابق.

وتسعى العديد من الدول المصدرة للنفط للاحتفاظ بحصتها في السوق الصينية، إذ تبيع روسيا نفطها لبكين بأسعار مخفضة لضمان استمرارها في الشراء. واستثمرت السعودية في مصافٍ صينية لتعزيز عقود توريد طويلة الأجل وتوفير النفط لتلك المنشآت.

وكانت هذه الحملة مكلفة بالنسبة للحكومة الصينية، إذ قدر “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” في واشنطن حجم الدعم الحكومي الصيني لقطاع السيارات الكهربائية بنحو 231 مليار دولار بين عامي 2009 و2023.

ولا تزال العديد من شركات تصنيع السيارات الكهربائية في البلاد غير مربحة، إذ أدى فائض الإنتاج إلى اندلاع حرب أسعار شرسة في السوق المحلية، إلى جانب ارتفاع الصادرات الذي ساهم في تصاعد التوترات التجارية.

“ثورة” في قطاع الطاقة

وفي أواخر عام 2013، حين تجاوزت الصين الولايات المتحدة لتصبح أكبر مستورد صافٍ للنفط في العالم، بدا أن اعتمادها على الخام الأجنبي في طريقه إلى التزايد من دون قيود، بعدما شكل نحو نصف نمو الطلب العالمي خلال العقد السابق. وبعد فترة قصيرة، جمع شي فريقه الاقتصادي، وأبلغهم بأن الصين بحاجة إلى “ثورة” في مجال الطاقة لحماية أمنها القومي.

وكانت بكين حذرة من الاعتماد المفرط على نفط الشرق الأوسط، الذي تورطت الولايات المتحدة بسببه في صراعات المنطقة لعقود. كما واجه شي استياءً داخلياً متزايداً بسبب الضباب الدخاني الخانق، الناتج جزئياً عن الزيادة الهائلة في أعداد السيارات على طرقات الصين.

ومع تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب، ازدادت مخاوف الاستراتيجيين في الحكومة الصينية من اعتماد البلاد على مضيق ملقا قرب سنغافورة، الذي تمر عبره معظم السفن التي تنقل النفط والغاز إلى الصين، ما يجعلها عرضة لاعتراض البحرية الأميركية في حال نشوب صراع.

وقدّر نائب وزير التجارة الأميركي بول دابار أن الاقتصاد الصيني قد ينكمش بنسبة تصل إلى 17% في حال فقدت الصين إمكانية الحصول على جميع وارداتها البحرية من النفط والغاز.

التنقيب عن النفط في الصين

وتعود رغبة الصين في تحقيق الاستقلالية في مجال الطاقة إلى عهد الزعيم الراحل ماو تسي تونج، الذي أرسل في وقتٍ ما عشرات الآلاف من العمال للبحث عن النفط في شمال شرقي البلاد، لضمان عدم اعتماد الصين على الواردات.

وأدى اكتشاف حقل ضخم قرب مدينة داتشينج في عام 1959 إلى دخوله سجل روايات الحزب الشيوعي، حيث أصبحت “روح داتشينج” رمزاً للعمل الشاق في مواجهة التحديات. لكن إنتاج هذا الحقل وحقول أخرى لم يتمكن من مواكبة الطفرة في الطلب التي أعقبت الإصلاحات الاقتصادية في الصين.

ومع إعطاء الحكومة الصينية الأولوية للسيارات الكهربائية، بدأت الشركات الحكومية في خفض إنتاج النفط المحلي، مفضلة استيراد المزيد من الخام من مصادر خارجية أقل تكلفة.

وفي يوليو 2018، تدخل شي شخصياً وأمر الشركات المملوكة للدولة بإحياء الإنتاج المحلي من النفط حفاظاً على الأمن القومي. وفي العام التالي، ضخت ثلاث من كبريات شركات النفط الحكومية استثمارات إضافية بقيمة 10 مليارات دولار في أنشطة الاستكشاف والإنتاج.

وركزت هذه الشركات على المناطق البحرية، مثل بحر الصين الجنوبي وبحر بوهاي قبالة الساحل الشمالي الشرقي للبلاد، إضافة إلى الاحتياطيات النائية قرب الحدود الغربية للصين مع قرجيزستان، في منطقة تُعرف باسم حوض تاريم.

وبحلول عام 2023، شكل حقل “بوهاي” النفطي 50% من نمو إنتاج النفط في الصين. كما رفعت شركة Cnooc إنتاجها في بحر الصين الجنوبي بأكثر من الربع منذ عام 2020.

آبار نفط فائقة العمق

وفي صحارى حوض تاريم، تعمل الفرق على استكشاف بعض أعمق الاحتياطيات في البلاد. وقد تتجاوز درجات الحرارة صيفاً 120 درجة فهرنهايت، بينما تهبط شتاءً إلى ما دون 20 درجة تحت الصفر. وتُعد هذه الاستكشافات فائقة العمق مكلفة للغاية، إذ قال أحد التنفيذيين في قطاع النفط الصيني لوسائل إعلام رسمية إن تكلفة بعض الآبار تعادل ثلاثة أضعاف تكلفة الآبار التقليدية الأقل عمقاً.

وفي عام 2023، أجرى شي مكالمة فيديو مع عمال النفط في حوض تاريم، أشاد خلالها بـ”مساهماتهم التي لا غنى عنها” للبلاد. وقد شكلت الخزانات العميقة في الحوض نحو 5% من إجمالي إنتاج الصين من النفط والغاز في العام الماضي، وهو رقم يعتزم المسؤولون التنفيذيون في قطاع النفط الصيني رفعه مستقبلاً.

وحتى مايو الماضي، قالت China National Petroleum، وهي الشركة الأم لـPetroChina، إنها حفرت 193 بئراً في حقل تاريم النفطي بعمق لا يقل عن خمسة أميال. وفي المقابل، يبلغ عمق العديد من الآبار في الولايات المتحدة ميلاً أو اثنين فقط.

وفي فبراير الماضي، أعلنت الشركة أنها أنجزت أعمق بئر استكشافية في تاريخها، وهي بئر Shenditake 1، بعمق يقارب سبعة أميال. وذكرت وسائل الإعلام الرسمية أنها ثاني أعمق بئر رأسية في العالم، بعد بئر علمية حفرها الاتحاد السوفيتي قبل سنوات طويلة.

تحول إلى المركبات الكهربائية

بالتوزاي مع ذلك تعمل الصين على استبدال أساطيل سيارات الأجرة المستهلكة للوقود من طرازي “فولكس فاجن” و”هيونداي” بنماذج كهربائية مصممة ومُصنعة محلياً. وفي العام الماضي، شكّلت السيارات الكهربائية بالكامل والهجينة القابلة للشحن نحو نصف السيارات المباعة في البلاد، مقارنة بنسبة 6% فقط في عام 2020.

وأشعلت دعوة شي إلى التحرك موجة من النشاط الحكومي لتعزيز صناعة السيارات الكهربائية الناشئة. فلم تكن تلك المركبات وسيلة لخفض الطلب على النفط فحسب، بل منحت الصين أيضاً فرصة لتجاوز شركات صناعة السيارات في الولايات المتحدة وغيرها، بعد سنوات من السعي لمواكبتها في إنتاج محركات الاحتراق الداخلي.

ولخفض كلفة السيارات الكهربائية، أعفت بكين هذه المركبات من ضريبة مبيعات بنسبة 10%، في برنامج يُقدر أنه كلف الدولة أكثر من 100 مليار دولار منذ عام 2018.

وسعت نحو 500 شركة إلى دخول مجال تصنيع السيارات الكهربائية، وقد تأسست بعض هذه الشركات على يد مديرين تنفيذيين يفتقرون للخبرة في إدارة شركات سيارات، فأنفقوا أموال الدعم الحكومي قبل أن تنهار مشاريعهم.

وبحلول عام 2019، لم تمثل السيارات الكهربائية والهجينة القابلة للشحن سوى نسبة ضئيلة من السوق، إذ ظل كثير من المستهلكين الصينيين مترددين في الإقبال على هذا التحول. وجاءت نقطة التحول في أواخر ذلك العام، عندما افتتحت شركة “تسلا” أول مصنع لها في الصين، بدعم قوي من حكومة شنجهاي.

وقال مايكل دن، الرئيس التنفيذي لشركة Dunne Insights الاستشارية في مجال السيارات: “لأول مرة، رأى المستهلك الصيني سيارة جذابة ومستقبلية حقاً… لقد بدت أنيقة وسريعة، وتضم كل هذه العناصر الجذابة للغاية بالنسبة للمستهلك”.

ومع ارتفاع مبيعات السيارات الكهربائية، كثفت الحكومة الدعم المالي للشركات لبناء محطات شحن عامة، كما ألزمت المباني السكنية الجديدة بتوفير بنية تحتية تتيح للمقيمين تركيب شواحن خاصة بسهولة.

وحتى مايو الماضي، بلغ عدد نقاط الشحن في الصين أكثر من 14 مليون نقطة، أي ما يعادل تسعة أضعاف العدد المسجل في نهاية عام 2020. وبالمقارنة، تمتلك الولايات المتحدة نحو 230 ألف نقطة شحن عامة وخاصة، إضافة إلى مئات الآلاف من نقاط الشحن المنزلية التي يصعب تتبعها.

وفي شنجهاي، منحت المدينة لوحات أرقام خضراء مجانية لمشتري السيارات الكهربائية، في حين كانت تطرح لوحات أرقام السيارات التقليدية في مزاد بأسعار تجاوزت 10 آلاف دولار.

واستبدلت المدن الحافلات العاملة بالديزل بأخرى كهربائية. وبحلول عام 2023، كانت أكثر من 80% من حافلات المدن في الصين كهربائية بالكامل أو هجينة.

وسجلت شركة Contemporary Amperex Technology الصينية لصناعة البطاريات أرباحاً صافية قدرها 18 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، واستثمرت أكثر من 7 مليارات دولار في البحث والتطوير.

وفي الوقت الحالي، تقول Contemporary Amperex Technology ومنافستها BYD إن استثماراتهما في البحث والتطوير مكنتهما من تطوير تقنيات تتيح شحن السيارات في غضون خمس دقائق فقط.

وأصبحت مصانع السيارات الكهربائية في الصين اليوم رمزاً لبراعتها التصنيعية. وعلى بُعد أقل من 100 ميل (160 كيلو متر) جنوب منشأة “تسلا” في شنجهاي، قامت شركة صناعة السيارات الصينية Zeekr بأتمتة عمليات كاملة، مثل اللحام، مستخدمة أكثر من 800 روبوت لأداء المهام.

وتتمتع إحدى سيارات الشركة، Zeekr 001، بمدى يصل إلى 466 ميلاً (717 كيلو متر)  أي أكثر بنحو 180 ميلاً (289 كيلو متر) من المدى الوسيط للسيارات الكهربائية في الولايات المتحدة.

وفي الولايات المتحدة، ارتفعت مبيعات السيارات الكهربائية والهجينة بوتيرة أبطأ مقارنة بالصين، لتشكل 20% من مبيعات المركبات الخفيفة في نهاية العام الماضي، ارتفاعاً من 12% في أوائل عام 2022، وفقاً لشركة الأبحاث Omdia.

لكن مستويات المخزون المرتفعة من السيارات الكهربائية لدى بعض الوكلاء في الولايات المتحدة تشير إلى وجود سقف للطلب المحلي، فيما يتجه الكونجرس لإلغاء حوافز ضريبية تصل إلى 7500 دولار على شراء هذه المركبات، بهدف توفير أموال لتلبية أولويات أخرى.

شاركها.