تشهد محافظة السويداء في الجنوب السوري تطورات متسارعة بعد أيام من التوترات والاشتباكات التي اندلعت بين فصائل مسلحة درزية ومسلحين من العشائر البدوية، في واحدة من أعقد الحلقات في المشهد السوري الداخلي، وبينما تلوح في الأفق مؤشرات لعودة الهدوء إثر اتفاق لوقف إطلاق النار، يبقى السؤال الأهم: هل ما حدث في السويداء مجرد جولة عابرة من الاحتكاك، أم أنه يعكس مرحلة جديدة من إعادة رسم النفوذ المحلي والدولي في الجنوب؟
هدنة هشّة وعودة مشروطة
في أحدث التطورات الميدانية، أُعلن عن بدء انسحاب العشائر البدوية من بعض أحياء السويداء بعد اتفاق لوقف إطلاق النار، أعقبه إجلاء أكثر من 1500 شخص من العائلات البدوية باتجاه محافظة درعا، وجاءت هذه الخطوة ضمن ترتيبات تهدف إلى تجنب مزيد من التصعيد بعد مواجهات دامية خلّفت عشرات القتلى والجرحى، وشلّت الحركة في عدد من القرى والبلدات الجنوبية.
بحسب وكالة “أسوشيتد برس”، فإن الحكومة السورية بدأت تنفذ عملية إعادة انتشار أمني في المناطق الساخنة، تحت إشراف مباشر من وزارة الداخلية، مع إرسال تعزيزات من الأمن الداخلي لفرض الاستقرار، وسط تقارير عن توجه لإطلاق سراح معتقلين من الطرفين خلال الأيام المقبلة كجزء من حزمة إجراءات التهدئة.
المحلل السياسي عبد الستار القصير يرى، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز، أن “ما سيجري ليس موجة جديدة من القتال، بل جولة حوارية سياسية. البدو سيعودون إلى السويداء بعد أن تهدأ الأوضاع”، مشددًا على أن “الدولة ستبسط سيطرتها الكاملة على المحافظة، رغم تدخل أطراف إقليمية ودولية في الملف”.
بين العنف الكامن والسلاح المنفلت
لكن التهدئة الحالية لا تُلغي المخاوف من تجدّد الاشتباكات، خصوصًا مع بقاء السلاح بيد مجموعات غير منضبطة، في هذا السياق، يقول الكاتب والمحلل السياسي رامي نخلة، في حديث لوكالة ستيب نيوز: “من المرجّح أن نشهد موجات عنف جديدة ما لم تتم معالجة الأسباب الجذرية للصراع. هناك سلاح غير منضبط في السويداء، يحمله أفراد لا يتبعون مباشرة لأي مرجعية، ويتصرفون أحيانًا بدافع الثأر، ما يعقّد المشهد الأمني”.
ويضيف نخلة: “حين تحصل هذه التجاوزات، لا يجوز تحميل كافة الدروز تبعاتها. يجب محاسبة المتجاوزين دون الانجرار إلى التصعيد العسكري، لأنه لا يخدم أحدًا”.
الشيخ الهجري… بين الضغوط والنهاية السياسية؟
أحد أبرز الأسماء التي طُرحت في الأزمة هو الشيخ حكمت الهجري، المرجعية الدينية الأكبر للدروز في سوريا. ومع تصاعد التوترات، برزت تساؤلات حول مستقبل دوره وموقعه في المعادلة.
يرى نخلة أن “الشيخ الهجري لم يكن أبدًا في موقع هجومي، بل في موقف دفاعي بحت، وهو يواجه ضغوطًا من الداخل والخارج للتهدئة”، محذرًا من أن “سياسات كسر الرأس ستترك جراحًا عميقة في الذاكرة السورية يصعب معالجتها”.
في المقابل، يذهب القصير إلى ما هو أبعد من ذلك، معتبرًا أن “الهجري سيغادر السويداء بعد أن تهدأ الأوضاع، ولا مكان له في سوريا لاحقًا”، في إشارة إلى أن ترتيبات المرحلة المقبلة لا تتسع له، على حد تعبيره.
واشنطن… من المراقبة إلى التلميح بالمحاسبة
على صعيد المواقف الدولية، أثارت تصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توماس باراك، جدلًا واسعًا بعد أن ألمح إلى ضرورة “محاسبة الحكومة السورية بعد ما جرى في السويداء”.
نخلة يرى أن في ذلك “تحوّلًا واضحًا في موقف واشنطن، لأن ما حدث أضرّ بمصداقية السوريين أمام المجتمع الدولي”، مضيفًا: “رغم هذا التراجع، لا يزال بالإمكان ترميم الصورة إذا تمت معالجة الملف بشكل عقلاني”.
لكن عبد الستار القصير يقلّل من أهمية تلك التصريحات، قائلًا: “تصريحات باراك تم تحريفها، وقد عاد لاحقًا ليؤكد دعمه للحكومة السورية. من تابع تصريحاته بشكل كامل سيدرك أنه لم يتبنَّ موقفًا عدائيًا فعليًا”.
إسرائيل والمشروع الأكبر: تفتيت سوريا؟
الحديث عن “فخ إسرائيلي” وقعت فيه الحكومة السورية من خلال تعاملها مع السويداء، طُرح بقوة في أوساط الرأي العام، إلا أن نخلة يرفض هذه الفرضية تمامًا. ويقول: “علينا تحمّل مسؤولية أفعالنا، ولا يجوز استخدام إسرائيل شماعة لأخطائنا. خطأ الحكومة كان في تسرّعها باللجوء إلى القوة”.
القصير من جانبه لا يختلف حول عدم وجود فخ مباشر، لكنه يؤكد على مشروع إسرائيلي بعيد المدى لتفتيت سوريا. ويقول: “إسرائيل تريد تقسيم سوريا، وقد سبق أن قدّم نتنياهو هذا المشروع للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لكن الأخير رفضه”.
أداء الحكومة: فشل واضح أم نجاح نسبي؟
وحول تقييم أداء الحكومة السورية في إدارة هذه الأزمة، يقرّ نخلة بوضوح أن الحكومة “فشلت بجدارة” في التعامل مع ملف السويداء، لكنه يضيف: “رغم ذلك، فإن هذه الحكومة حديثة، وقد أصابت في ملفات أخرى أكثر مما أخطأت”.
في المقابل، يدافع القصير عن الإجراءات الحكومية، ويرى أنها كانت “ضرورية وحاسمة”، معتبرًا أن “التدخل الإسرائيلي هو الذي عرقل الخطة الأمنية وفجّر الوضع”.
واقع إنساني مأزوم… ورؤية للمستقبل
أدى التصعيد الأخير إلى مقتل عشرات المدنيين وتشريد مئات العائلات، وسط أوضاع إنسانية متردية، خاصة في القرى الواقعة على خط التماس، وتقارير صحفية أشارت إلى انقطاع الكهرباء والمياه عن بعض المناطق، وشحّ في المواد الأساسية.
وبينما تعمل الحكومة السورية حاليًا على فرض تهدئة مدعومة بوجود أمني، تبقى التحديات قائمة، لا سيما مع استمرار حالة التوتر الطائفي والسياسي في الجنوب.
وتُظهر تصريحات نخلة والقصير أن الرؤى تختلف في تشخيص الأزمة، لكنها تتفق على أن المرحلة الحالية حساسة وتتطلب حذرًا بالغًا، وبينما تُراقب الأطراف الدولية والإقليمية التطورات عن كثب، يبدو أن الملف لم يُغلق بعد، وأن ما حصل في السويداء قد يُشكّل ملامح جديدة للصراع السوري في مرحلته القادمة.
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية