خطيب بدلة
كان معارضو نظام الأسد نوعين: الأول إسلاميون، يرون أن النظام يمثل الأقليات الدينية، ويستأثر بالسلطة، مع أن السلطة من حقهم، لأنهم أكثرية دينية. والثاني، تشكيلة من اليساريين والديمقراطيين والليبراليين، الذين يتهمون النظام بالتسلط، والإجرام، واتباع كل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، للاحتفاظ بالسلطة، ومن هذه الوسائل: قانون الطوارئ، الذي اعتمدوا عليه لقمع الشعب منذ انقلاب 8 من آذار 1963، والشعارات البراقة، الخالية من أي مضمون، والخطابات الإنشائية التي لا عمل لها غير تضليل وعي الناس، وتشويه ضمائرهم.
كنا، نحن الأدباء غير المنخرطين في ركب النظام، نسخر، في مجالسنا الخاصة، من أهل الخطابات الذين يشبّحون للنظام، ونطلق العنان لخيالنا في وصف قذاراتهم، فيحكي أحدنا للآخرين، مثلًا، عن وقائع حفل خطابي حضره، ويذكر فلانًا، الذي عُرف عنه النفاق والكذب، أنه كان يعص على نفسه، ويكبس، مثل دجاجة علقت في مؤخرتها بيضة أكبر مما تحتمله فتحة مؤخرتها، فاضطرت لرفع مستوى القوقأة، وعلانًا الذي صاح “أيها الإخوة المواطنون”، فاتجهت أبصار الحاضرين إلى مؤخرته، معتقدين أنها، في هذه اللحظة، تنفث الدخان!
شهدت البلاد العربية، في الستينيات من القرن العشرين، موسمًا خطابيًا مدهشًا، فبدا، يومئذ، وكأن شعوبنا داخلة في سباق محموم، هدفه الإجابة عن هذا السؤال: مَن يكذب أكثر؟ أو: مَن يزاود أكثر؟ وكانت الأنظمة الحاكمة، في تلك الآونة، هشة البنيان، كثيرة اللغط، وتكاد تكون السمة الأساسية لإعلامها، هي السخف، فكان الإعلام السوري، مثلًا، يهاجم النظام المصري، والأردني، والعراقي، وفي مصر ازدهرت خطابات أحمد سعيد، الذي يردح لحكام سوريا، ويخونهم، ومع الزمن تحول أحمد سعيد إلى ظاهرة، أو نموذج يحتذى لأي إعلامي يرى كل ما يصدر عن جماعته رائعًا، وما يصدر عن خصومه سيئًا، فكان لدينا، في سنة 2003، وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف، وفي سنة 2023، فايز الدويري، الذي كان قادرًا على إقناع متابعيه، غير المتخصصين بالعلوم العسكرية، أن “حماس” تنتصر، وإسرائيل تتقهقر!
خلال السنوات التي تلت انطلاق الثورة السورية، في سنة 2011، حدث، في المجتمع السوري، انقسام سياسي حاد، وتشكل لدينا فريقان إعلاميان متضادان، متصادمان، مقتتلان، فبرزت، عند نظام الأسد، مجموعة من الإعلاميين الذين تفوقوا على أحمد سعيد، وسعيد الصحاف، في ميدان العص والكبس، وأصبح لكل منهم نكهته الخاصة، وفكاهاته الخاصة، مثل شريف شحادة، وخالد العبود، وظهرت شخصيات معارضة لا تقل سفاهة عن شخصيات النظام، يضخمون مساوئ النظام، ومحاسنَ الثورة، حتى أصبحنا نبحث، بالسراج والفتيلة، عن شخص منحاز لسوريا، يتبنى خطابًا وطنيًا، وينظر إلى المستقبل أكثر مما ينظر إلى الماضي والحاضر، وتعمقت الطائفية، في هذه الفترة، وزادت الأحقاد بين السوريين.. ومع أن فريق النظام، وفريق الثورة، كانا متناحرين، فإنهما كانا يتحدان في مواجهة صاحب الخطاب الوطني!
ما أرمي إليه، من خلال هذا الحديث، أن أطمح، وأتأمل، بأن يأتي يوم، نتحدث فيه، نحن السوريين، بموضوعية، وأن ننظر إلى الرأي، على أنه رأي، قد يصح وقد يخطئ، دون أن نهين قائله، أو نذله.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي