في ظل تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، وتعدد الجبهات المشتعلة من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط، تتعقد خريطة المصالح والتحالفات على الساحة الدولية بشكل غير مسبوق، فالحرب الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث، والاحتكاك المتزايد بين الولايات المتحدة وإيران، وارتفاع منسوب التوتر في مناطق النفوذ الروسي كلها مؤشرات على مرحلة صعبة ومعقدة في النظام العالمي.
وسط هذا المشهد المتشابك، تتصاعد الأسئلة حول اتجاهات السياسة الأمريكية، واستراتيجيات موسكو، وإمكانية التفاوض أو التصعيد في أكثر من ساحة، ولفهم هذه التطورات من منظور تحليلي معمّق، حاورت وكالة ستيب نيوز الدكتور آصف ملحم، مدير مركز جي إس إم للدراسات والأبحاث في موسكو، الذي قدّم رؤية شاملة حول مآلات الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وفرص التسوية المحتملة، وموقف روسيا من الحرب بين طهران وتل أبيب.
احتمالات انسحاب أمريكي من دعم أوكرانيا
مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران وتبادل الضربات بين إيران وتل أبيب وسط حديث عن إمكانية تدخل مباشر من واشنطن فيها وتحذيرات روسية من ذلك، تبرز تساؤلات بشأن مستقبل الدعم الأمريكي لأوكرانيا.
في هذا السياق، يرى الدكتور آصف ملحم أن “الحديث عن انسحاب أمريكي فعلي من دعم أوكرانيا غير دقيق”، موضحًا أن ما يجري هو “إعادة ترتيب للأوراق والجبهات”، وليس تحولًا جوهريًا في الاستراتيجية.
ويشير الدكتور ملحم إلى أن “المخطط لانخراط واشنطن مع إسرائيل في ضرب إيران ليس وليد اللحظة، بل هو قديم”، مضيفًا أن الولايات المتحدة عندما دخلت في محادثات مع روسيا بشأن أوكرانيا “لم يكن هدفها حل الأزمة، بل تخفيف التوتر تمهيدًا لتوسيع نفوذها في آسيا الوسطى، وتقليل حدة المواجهة مع موسكو”.
أما بالنسبة للدعم العسكري، فيؤكد أن العبء الأكبر بات ملقى على أوروبا، إذ “رفعت دول أوروبية، مثل ألمانيا، سقف ديونها العامة لتحديث صناعتها العسكرية”، في حين أن الولايات المتحدة لا تزال مستفيدة اقتصاديًا من هذه المعادلة؛ “فأوروبا تستورد 80% من أسلحتها من الولايات المتحدة”.
ورغم إمكانية تقليص بعض المنظومات النوعية مثل باتريوت، يرى ملحم أن البدائل الأوروبية جاهزة، مثل “نظام SAMP/T الفرنسي، وIRIST الألماني”، ما يتيح تعويضًا فعالًا للنقص.
ويتابع: “التخوفات الأوكرانية مفهومة، لكن لا يوجد تغيير جذري في طبيعة الدعم الغربي، بل إعادة توزيع للأدوار فقط”.
هل تسوية النزاع الأوكراني مرهونة باتفاق بين بوتين وترامب؟
تُثار تكهنات بشأن إمكانية إنهاء الحرب في أوكرانيا عبر تسوية محتملة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بحكم تعدد الجبهات التي تشرف عليها الولايات المتحد من جهة، وتقارب بوتين وترامب الكبير فيما بينهما.
لكن الدكتور آصف ملحم يرفض اختزال العلاقات الدولية بهذه البساطة، مشددًا على أن “العلاقة بين الرؤساء لا تعكس بالضرورة العلاقات بين الدول”، وأن “القرار في واشنطن يصدر عن مؤسسات معقدة، وليس من الرئيس وحده”.
ويكشف أن روسيا بدأت تدرك تعقيدات المشهد وتسعى “للتفاوض المباشر مع أوكرانيا دون وساطة أمريكية”. مشيرًا إلى وجود “شخصيات داخل أوكرانيا مؤيدة للتفاهم مع روسيا، نظرًا للروابط التاريخية بين الشعبين”.
ويلفت ملحم إلى أن “بريطانيا تلعب دورًا محوريًا في إطالة أمد الصراع”، في حين أن واشنطن تفضل “تجميد النزاع لا إنهاءه، من أجل استثماره سياسيًا”، لكنه يوضح أن هذا الجمود يعيق المكاسب الاقتصادية، قائلًا: “واشنطن لا تستطيع استثمار أوكرانيا اقتصاديًا ما دامت الحرب مشتعلة”.
ويخلص إلى أن الدعم الأمريكي قد يعود للواجهة إذا توفرت بيئة ميدانية داعمة، مؤكدًا أن “ما يجري ليس تسوية للصراع، بل إدارة طويلة له، وإعادة ترتيب للمصالح والأولويات الأمريكية”.
هل حان وقت التفاوض بين روسيا وأوكرانيا؟
في ظل تغيّر موازين القوى على الأرض، يُطرح السؤال حول مدى مناسبة الوقت لبدء مفاوضات جدية بين روسيا وأوكرانيا، لا سيما ان بوتين أعرب عن استعداده للتفاوض مع زيلينسكي مؤخراً.
ويؤكد الدكتور ملحم أن “الوقت مناسب للمفاوضات، خصوصًا مع تراجع القدرات الأوكرانية وتقدم روسيا على الأرض”، معتبرًا أن موسكو تعمل على عدّة مستويات لفكفكة الصراع.
ويضيف أن روسيا “تحاور أطرافًا داخل أوروبا وأوكرانيا نفسها، وتسعى إلى خلق مسار تفاوضي يبدأ بتدابير بناء الثقة مثل تبادل الأسرى”، ويشرح أن الرسالة الروسية هي: “ابقوا في صفنا”، انطلاقًا من “السياق التاريخي والثقافي المشترك بين الشعبين”.
ويعتبر ملحم أن النزاع الأوكراني “أقرب إلى حرب أهلية”، مشيرًا إلى أن الحرب قد تؤدي إلى “فرمتة الوعي الأوكراني وإعادة تشكيل الهوية بما يجعل التقارب مع روسيا ممكنًا”.
كما يتوقف عند شخصية الجنرال فاليري زالوجني، القائد العسكري السابق، موضحًا أنه “كان من الداعين للسلام، ولو بقي في منصبه، لربما لعب دورًا في تحقيق تسوية”، لكنه أُقيل وأُرسل سفيرًا إلى لندن، في خطوة قرأها البعض على أنها تهميش لصوت التهدئة.
ويرى أن روسيا تتعامل بذكاء مع المشهد الأوروبي والأوكراني، قائلاً: “نتيجة هذا المسار ستكون في صالح روسيا وصالح الشعب الأوكراني”.
إمكانية تدخل روسي في الحرب بين إيران وإسرائيل
وسط اشتعال الصراع بين إيران وإسرائيل، تثار تساؤلات بشأن موقف موسكو، وإن كانت ستلعب دور الوسيط أم الطرف.
الدكتور آصف ملحم يرى أن “هذه الحرب ليست من أجل البرنامج النووي الإيراني”، مؤكدًا أن “الكل يعلم أن إيران لا تسعى فعليًا لصناعة قنبلة نووية”، وأن هذا الملف مجرد “ذريعة تُستخدم لتنفيذ أجندات قديمة”.
ويشرح أن إسرائيل تلعب “دور رأس الحربة في تنفيذ مخططات أمريكية ضد إيران، مدفوعة بعدائها التاريخي لدعمها لمحور إيران”، مستشهدًا بتصريحات أمريكية من مسؤولين مثل تولسي غابارد ومارك وارنر تؤكد “عدم وجود أدلة على سعي إيران لامتلاك سلاح نووي”.
ويلفت ملحم إلى أن فتح الجبهة الإيرانية يندرج ضمن “استراتيجية تطويق روسيا والصين عبر إشعال بؤر توتر في جنوب القوقاز، وآسيا الوسطى، وأفغانستان، وباكستان”.
وإذا تصاعدت المواجهة بحسب ملحم “فقد تجد روسيا والصين نفسيهما مضطرتين للتدخل”، خاصة مع “تحركات إسرائيلية جنوب شرق تركيا ضمن مشروع الاتحاد التركي، ما يمثل تهديدًا مباشرًا لروسيا”.
ويحذر من أن دخول إيران في “حرب استنزاف طويلة قد لا يكون الخيار الأخطر، إذ إن استخدام الفصائل المسلحة المعادية لإيران في محيطها الجغرافي هو التهديد الأكبر”.
ويتابع: “معادلة الحرب تتغير بسرعة، والتنبؤ بما هو قادم صعب جدًا في ظل هذا الكم من التفاعلات والاختراقات”، لكنه لا يستبعد تدخلًا روسيًا مباشرًا أو غير مباشر إذا تطورت الأوضاع بشكل يهدد مصالح موسكو الاستراتيجية.
وفي ضوء التحليلات التي قدّمها الدكتور آصف ملحم، يتضح أن الساحة الدولية تمر بمرحلة إعادة تموضع استراتيجي، حيث لا يُقاس النفوذ فقط بكمية الدعم العسكري أو المواقف العلنية، بل بقدرة القوى الكبرى على إدارة الصراعات وتوجيه مساراتها بما يخدم مصالحها بعيدة المدى.
ويؤكد الخبير أن الولايات المتحدة لا تنسحب من أوكرانيا بقدر ما تعيد توزيع الأدوار، فيما تتابع روسيا جهودها لاستثمار نقاط التصدع داخل أوروبا وأوكرانيا لدفع نحو مسار تفاوضي طويل الأمد، أما الشرق الأوسط، فقد يتحول إلى ساحة اختبار جديدة للعلاقات الدولية، في حال تصاعدت الحرب بين إسرائيل وإيران، وهو ما قد يستدعي تدخلاً روسيًا ولو بشكل غير مباشر لحماية مصالحها الأمنية والاقتصادية.
وسط هذه المعادلات المعقدة، تبقى الحقيقة الثابتة أن الصراعات الكبرى اليوم لم تعد تُحسم في ميادين القتال فقط، بل في غرف التخطيط، ومسارات التفاوض، وتوازنات القوى الناعمة، والمتغيرات الراهنة تفرض على جميع الأطراف قراءة دقيقة لمجريات الأمور، فالمستقبل القريب قد يحمل مفاجآت حاسمة في اتجاهات الصراع والتسوية معًا.
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية