تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعد إعلان نتفليكس عن اتفاق يقضي بالاستحواذ على Warner Bros. Discovery مقابل 82.7 مليار دولار، في خطوة تهدد بإعادة تشكيل خريطة القوة في الإعلام الأميركي والعالمي بصورة غير مسبوقة.

وبينما يتم النظر إلى الصفقة بوصفها الأكبر في تاريخ صناعة الترفيه الحديثة، فإنها أطلقت سلسلة واسعة من ردود الفعل السياسية والاقتصادية والتنظيمية، ودفعت أطرافاً متعددة، من البيت الأبيض والكونجرس إلى الهند ودور العرض الأميركية ونقابات هوليوود، إلى التحذير من أنها قد تؤدي إلى “تركيز احتكاري خطير”.

وتتصاعد الأسئلة حول ما إذا كانت الإدارة الأميركية والجهات التنظيمية ستسمح بقيام كيان إعلامي بهذا الحجم، يجمع بين أكبر منصة بث في العالم وأكثر الاستوديوهات الهوليوودية عراقة وتأثيراً، في وقت تكافح فيه الصناعة لتجاوز آثار الإضرابات العمالية والتباطؤ الاقتصادي وتراجع اشتراكات البث.

قلق داخل البيت الأبيض

حتى الآن، لم يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب موقفه المباشر من الصفقة، إلا أن تسريبات إعلامية، نقلتها شبكة CNBC عن مسؤول رفيع، أشارت إلى أن البيت الأبيض يبدي “شكوكاً كبيرة” إزاء منح نتفليكس قوة مفرطة في سوق الإعلام.

ورغم أن الإدارة لم تصدر تعليقاً رسمياً، فإن مجرد تداول هذه الشكوك أعاد فتح نقاش واسع حول حدود المنافسة وسلطات مكافحة الاحتكار في سوق البث الرقمي، وتوازنات النفوذ داخل القطاع.

ومن المتوقع أن تخضع الصفقة لمراجعة دقيقة من وزارة العدل، ولجنة التجارة الفيدرالية، بموجب تشريعات مكافحة الاحتكار.

وتقدر نتفليكس وWarner Bros. Discovery أن إتمام العملية سيستغرق بين 12 و18 شهراً، رهن الحصول على موافقات محلية ودولية، بما في ذلك أوروبا والهند وكندا.

رسوم انفصال بـ 5.8 مليار دولار

على الرغم من الضغوط السياسية والتنظيمية، عبرت نتفليكس في اتصالاتها مع المستثمرين والمحللين عن ثقة كبيرة بإمكانية تمرير الصفقة، وقدمت الشركة دليلاً على هذا اليقين عبر قبولها دفع رسوم انفصال بقيمة 5.8 مليار دولار لصالح WBD إذا فشلت الصفقة بسبب رفض حكومي.

وقال تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك لنتفليكس: “نعتقد أن الصفقة ملائمة للمستهلك وصناع المحتوى، وتدعم الابتكار، ولا تقلل المنافسة. سندير Warner Bros. وHBO Max بشكل مستقل في المرحلة الأولى، وسنحافظ على العرض السينمائي بنوافذه التقليدية”.

وأكد ساراندوس أن العملية شهدت جولات مكثفة من التفاوض، مضيفاً: “إذا بدا أننا مرهقون فهذا صحيح.. لقد خضنا واحدة من أصعب المنافسات للحصول على هذه الصفقة”.

كواليس “الرهان الآمن”

وكشفت مجلة فارايتي في تقرير The Safer Bet أن اختيار WBD نتفليكس لإتمام الصفقة معها لم يكن مجرد قرار مالي، وٌنما كان “رهاناً استراتيجياً” اتخذه ديفيد زاسلاف، الرئيس التنفيذي لـWBD، في لحظة فوضى تمر بها هوليوود، وبعد مفاوضات امتدت لأيام عبر مكالمات ورسائل ومفاوضات مباشرة.

وتشير المعلومات إلى أن العرض الذي قدمته نتفليكس كان: الأعلى مالياً، الأقل تعقيداً تنظيمياً، والأكثر قدرة على ضمان استدامة Warner Bros. في بيئة تتغير بسرعة.

وقال زاسلاف في اجتماع داخلي مع موظفيه إن الصفقة: “ملائمة تماماً للطرفين، نحن أكبر منتج للمحتوى في العالم، ونتفليكس تمتلك أكبر منصة وأقوى تكنولوجيا وتوزيعاً دولياً واسعاً، لا يوجد تداخل يثير القلق”.

دور العرض تعلن اعتراضها

وأثارت الصفقة غضب شريحة واسعة من السينمائيين الأميركيين، وعلى رأسهم Cinema United، الجهة الممثلة لدور العرض.

ورأت الرابطة أن استحواذ نتفليكس، التي لطالما اتُّهمت بالتهديد المباشر لصالات السينما، على Warner Bros. سيؤدي إلى: تقليص الإنتاج السينمائي المخصص للعرض في دور السينما، وتقليص عدد الأفلام التي تحصل على نافذة عرض قبل التوجه للبث، وتعزيز نموذج الإطلاق الرقمي المبكر، بما يضر بدور العرض المتوسطة والصغيرة.

الهند تدخل المعركة

وأبدت Multiplex Association of India اعتراضاً واضحاً على الصفقة، محذّرة من أن استحواذ نتفليكس على Warner Bros. قد يؤدي إلى “انخفاض ملموس في جودة وتنوع الأفلام المعروضة في السينما الهندية”.

وترى الجمعية أن دمج منصّة بث كبرى مع استوديو ضخم قد يدفع المحتوى نحو البث الرقمي على حساب العرض المسرحي، ما “يهدد النظام البيئي لصناعة السينما الهندية”، ويخلق سابقة قد تتكرر مع استوديوهات أخرى.

ويمثل السوق الهندي — الذي يعتمد على مزيج من الإنتاج المحلي والعالمي — إحدى المناطق التي سيكون لموقفها وزن تنظيمي في عملية المراجعة الدول

Paramount وعائلة إليسون

وقادت Paramount Global حملة مضادة قوية، مؤكدة في خطاب رسمي لهيئة WBD أن الصفقة “من المرجح ألا تُغلق أبداً” بسبب مخاطرها التنظيمية، ورأت الشركة أن امتلاك نتفليكس لمكتبة Warner Bros. سيمنحها “هيمنة عالمية غير قابلة للمنافسة”.

ويتقاطع هذا الموقف مع عامل سياسي لافت، إذ يتمتع ديفيد إليسون — رئيس Skydance الذي كان ينافس لشراء WBD — بعلاقة قوية بالرئيس ترمب، ما يعزز احتمالات تأثير السياسة في نتيجة الصفقة.

ويُذكر أن مفاوضات Skydance كانت تسعى لدمج WBD مع Paramount، قبل أن ينجح عرض ليكس في حسم المنافسة.

مصير HBO 

أما أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً يتمثل في مستقبل HBO وHBO Max تحت مظلة نتفليكس.

وتشير فارايتي إلى أن نتفليكس ستسمح باستمرار HBO Max كخدمة مستقلة في المرحلة الأولى، قبل تقييم الخيارات لاحقاً.

الاحتمالات المطروحة تشمل: دمج المحتوى داخل نتفليكس مع الإبقاء على علامة HBO مستقلة، أو الإبقاء على HBO Max لخدمة مناطق محددة، أو إعادة هيكلة كاملة للعلامة في إطار استراتيجية نتفليكس الدولية.

ويمثل التداخل الكبير بين مشتركي HBO Max وNetflix تحدياً آخر، إذ قد تستخدم الجهات التنظيمية هذه البيانات لتأكيد وجود “قوة مشتركة مفرطة” في سوق البث.

ومع وجود أكثر من 300 مليون مشترك لنتفليكس و128 مليون مشترك لـWBD، فإن دمجهما سيخلق أكبر قاعدة مستخدمين في تاريخ الصناعة، وهو ما يُقلق الجهات التنظيمية التي تراقب بدقة القوة السوقية والتسعيرية للمحتوى.

نقابات هوليوود 

وأشعل الإعلان عن الصفقة موجة اعتراض نقابية في هوليوود، بعدما خرجت النقابات المهنية الأربع الكبرى – نقابتا الكتاب (WGA West وWGA East)، نقابة المخرجين (DGA)، ونقابة المنتجين (PGA) – بمواقف علنية تحذر من تداعيات الصفقة.

ووصفت نقابتا الكتاب الصفقة بأنها تمثل نموذجاً واضحاً لما صُممت قوانين مكافحة الاحتكار لمنعه، معتبرتين أن ابتلاع أكبر منصة بث لمنافس رئيسي سيؤدي إلى إلغاء الوظائف، وخفض الأجور، وتردي ظروف العمل، وارتفاع الأسعار على المستهلكين، وتقليص حجم وتنوع المحتوى المعروض.

وأكد البيان المشترك أن سيطرة حفنة من الشركات على ما يشاهده الجمهور باتت تؤثر سلباً على حقوق العاملين والجمهور معاً، مشددين على أن “هذه الصفقة يجب أن تتوقف”.

من جانبها، أعربت نقابة المخرجين عن “مخاوف جوهرية” من منح نتفليكس حقوقاً حصرية للتفاوض بشأن بيع Warner Bros. Discovery، مؤكدة ضرورة حماية التنافسية التي تضمن الفرص العادلة للمواهب وتدعم الإبداع. وأعلنت أنها ستجتمع مع نتفليكس لبحث الضمانات المطلوبة قبل اتخاذ موقف نهائي.

أما نقابة المنتجين، فاعتبرت أن الصفقة تمثل اختباراً حقيقياً لمستقبل الصناعة، في لحظة تمر فيها بهزات اقتصادية وتكنولوجية، وشددت على أهمية إيجاد صيغة تحفظ مصالح المنتجين والتوزيع السينمائي، وتضمن حرية الإبداع وتنوع الأصوات، مؤكدة أن استوديوهات هوليوود ليست مجرد مكتبات محتوى، وإنما هي جزء من الهوية الثقافية الأميركية.

سيناريوهات المستقبل

السيناريوهات المحتملة لمستقبل الصفقة تشمل: الموافقة بشروط صارمة، وهو السيناريو المرجح لدى بعض المحللين، وقد يشمل: ضمانات بعدم دمج HBO Max ونتفليكس في السنوات الأولى، الحفاظ على حد أدنى من النوافذ السينمائية، عدم تقليص الإنتاج المسرحي، قواعد تعزز حماية العاملين.

السيناريو الثاني هو الموافقة الكاملة: وهو السيناريو الذي تراهن عليه نتفليكس.

أما السيناريو الثالث فهو الرفض التام، وهو احتمال يزداد قوة بعد اعتراض الهند ودور العرض والنقابات وParamount.

هل نحن أمام أكبر تحول في تاريخ هوليوود؟

أياً تكن النتيجة، يتفق الخبراء على أن صفقة نتفليكس و Warner Bros تمثل نقطة انعطاف تاريخية، فإذا تمت فستكون أكبر عملية إعادة تشكيل في صناعة الترفيه منذ اندماج ديزني و Fox، وأقوى حالة دمج بين منصة رقمية واستوديو سينمائي في العالم، وبداية فصل جديد تتراجع فيه سلطة التلفزيون التقليدي لصالح كيانات بث عملاقة.

أما إذا رُفضت، فسيكون ذلك إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة والعالم لم يعودوا مستعدين لترك صناعة المحتوى تقع تحت هيمنة منصة واحدة.

وفي انتظار كلمة البيت الأبيض والجهات التنظيمية، يظل سؤال واحد معلّقاً في الهواء: هل ستسمح واشنطن بقيام أكبر تكتل ترفيهي في تاريخ العصر الرقمي؟

شاركها.