يطنّون، يلدغون، وينقلون بعضاً من أخطر الأمراض التي عرفتها البشرية. البعوض، بلا منازع، هو من أكثر الكائنات المكروهة على وجه الأرض، ولكن لو أُتيح لنا القضاء عليهم نهائياً، فهل ينبغي أن نفعل ذلك؟، هذا السؤال طرحته صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.

لم يعد هذا السؤال مجرد فرضية. فقد طوّر العلماء في السنوات الأخيرة أدوات جينية قوية قد تتيح القضاء على البعوض وغيره من الآفات بشكل دائم. واليوم، يرى بعض الأطباء والعلماء أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة غير مسبوقة: إطلاق تقنيات التعديل الجيني للحد من أعداد البعوض، وتخفيف معاناة البشر من أمراض مثل الملاريا، وحمى الضنك، وفيروس غرب النيل، وغيرها.

يقول أليكوس سيموني، عالم الأحياء الجزيئية في مشروع “Target Malaria”  إن “هناك أرواح كثيرة على المحك بسبب الملاريا، ونريد التأكد من أن هذه التكنولوجيا يمكن استخدامها في المستقبل القريب.”

لكن تطوير هذه التكنولوجيا يثير سؤالاً أخلاقياً جوهرياً: متى، إن وُجدت لحظة كهذه، يكون من المقبول القضاء عمداً على نوع كامل من الكائنات الحية؟

وتشير الصحيفة إلى أن عالم الطبيعة الشهير، إدوارد ويلسون، قال: “سأكون سعيداً بأن أضغط على الزر بنفسي لأقضي على البعوض الناقل للملاريا”.

لكن بعض الباحثين وعلماء الأخلاقيات يحذرون من أن العبث بأسس الحياة قد يكون محفوفاً بالمخاطر حتى البعوض المزعج والصغير، كما يقولون، قد يحمل قيمة بيئية لا يمكن تجاهلها.

كيف يتم القضاء على البعوض؟

يُعد مشروع Target Malaria من أكثر المبادرات طموحاً في هذا المجال، إذ يسعى سيموني وزملاؤه إلى تقليص أعداد بعوض “أنوفيليس جامبياي”، وهو الناقل الرئيسي للملاريا في إفريقيا جنوب الصحراء.

في المختبر، أدخل العلماء طفرة جينية تجعل إناث البعوض تفقس بدون مبايض فعالة، مما يجعلها عقيمة. أما الذكور، فيحملون الجين دون أن يتأثروا به. وعندما يتزاوج هؤلاء مع بعوض بري، ينتشر الجين تدريجياً حتى تنهار أعداد الإناث القادرة على التكاثر.

يأمل سيموني أن يتم إطلاق هذه البعوضات المعدلة وراثياً في بيئتها الطبيعية خلال السنوات الخمس المقبلة، ويحظى المشروع بدعم من مؤسسة بيل وميليندا جيتس الخيرية، ومؤسسة “Open philanthropy” التي يدعمها داستن موسكوفيتز، المؤسس المشارك لفيسبوك.

في قلب هذا المشروع تكمن تقنية تُعرف بـ”الدفع الجيني ” (Gene Drive) ، وهي آلية تضمن انتقال الجين المعدل إلى جميع الأجيال اللاحقة، متجاوزة قوانين الوراثة الطبيعية.

الانقراض المتعمد

في وقت يسعى فيه دعاة الحفاظ على البيئة لحماية الأنواع من الانقراض، يُعد البعوض من القلائل الذين يُنظر إليهم كمرشحين مناسبين للزوال.

ففي عام 2023، توفي نحو 600 ألف شخص بسبب الملاريا، معظمهم في إفريقيا، بحسب منظمة الصحة العالمية.

يقول بول ندبيلي، خبير الأخلاقيات الحيوية من زيمبابوي: “عدد الوفيات في إفريقيا يعادل تحطم طائرتين من طراز بوينج 747 يومياً على جبل كليمنجارو”.

بالنسبة لمؤيدي الدفع الجيني، فإن إقناع المجتمعات في دول مثل بوركينا فاسو أو أوغندا ليس بالأمر الصعب، إذ تقول كريستال بيرونجي، عالمة الحشرات في Target Malaria بأوغندا “هؤلاء يعيشون في مناطق يموت فيها الأطفال. لكننا نواجه أحياناً معلومات مضللة، مثل الاعتقاد الخاطئ بأن لدغات البعوض المعدل وراثياً قد تسبب العقم”.

مؤخراً، جمع مركز هاستينجز للأخلاقيات الحيوية وجامعة ولاية أريزونا مجموعة من علماء الأخلاقيات لمناقشة مخاطر القضاء المتعمد على نوع ما، وفي ورقة نُشرت في مجلة Science، خلصوا إلى أن “الانقراض المتعمد قد يكون مقبولاً في حالات نادرة جداً”.

وأشاروا إلى ذبابة screwworm، وهي طفيلي يضع بيضه في الجروح ويتغذى على لحم البشر والحيوانات، كمرشح مناسب للإبادة. لكنهم حذروا من استخدام التقنية على القوارض الغازية في جزر المحيط الهادئ، خوفاً من انتقالها إلى البر الرئيسي.

فيما يقول جريجوري كيبنيك، الباحث في المعهد: “حتى على المستوى الميكروبي، لا نؤيد إعادة تشكيل العالم وفقاً لرغبات البشر”.

دور البعوض في النظام البيئي

لا يزال من غير الواضح مدى أهمية البعوض الناقل للملاريا في النظم البيئية. فهل تستطيع الضفادع أو الطيور التي تتغذى عليه العثور على بدائل؟ وهل نحن بالفعل في خضم “كارثة حشرية” عالمية تهدد التوازن البيئي؟

يقول كريستوفر بريستون، الفيلسوف البيئي بجامعة مونتانا: “القضاء على البعوض باستخدام تقنية جينية قد يؤدي إلى انقراض عالمي بطريقة تبدو محفوفة بالمخاطر”.

بدلاً من ذلك، يقترح بعض العلماء استهداف الطفيلي المسبب للملاريا نفسه، وهو طفيلي البلازموديوم، باستخدام اللقاحات أو أدوات تعديل جيني أخرى، دون الحاجة إلى القضاء على البعوض.

وحسب كيبنيك: “يمكننا القضاء على الملاريا دون القضاء على البعوض”، فيما يضيف ندبيلي أن “اللافت أن معظم المعارضين لفكرة القضاء على البعوض لا يعيشون في إفريقيا”.

شاركها.