في مسيرته الطويلة كسياسي دنماركي بارز، بما في ذلك منصبه كوزير للدفاع خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأولى، قال كلاوس يورت فريدريكسن إنه لطالما قدّر العلاقة الوثيقة التي تجمع الدولة الإسكندنافية بالولايات المتحدة.
وكما هو حال كثيرين في الدنمارك، التي كانت حتى وقت قريب من أكثر الدول الأوروبية تأييداً لأميركا، عبّر فريدريكسن عن أسفه الشديد لأن الولايات المتحدة تحولت من “أفضل صديق” إلى “خصم جشع”، وفق “وول ستريت جورنال”.
وأصبح طلب ترمب الاستحواذ على جزيرة جرينلاند، التي تمثل 98% من مساحة مملكة الدنمارك، أهم قضية في العلاقات الثنائية بين البلدين.
وقال فريدريكسن: “والداي، اللذان عاشا شبابهما خلال الحرب العالمية الثانية، أحبّا الأميركيين الذين أنقذونا في عام 1945.. أما أنا، كشخص وثق بالولايات المتحدة طوال هذه السنوات، فمن الصعب جداً أن أرى أن كل ما قمنا به معاً، من القتال إلى جانب الأميركيين في أفغانستان والعراق وغيرها، لم يعد له أي قيمة اليوم.. فجأة، أصبحنا لا شيء”.
أما عن ولديه، فأضاف: “هما غاضبان جداً جداً من الولايات المتحدة”. وكذلك معظم الدنماركيين. فوفقاً لاستطلاع أجرته YouGov في فبراير، فإن 20% فقط من الشعب الدنماركي بات لديهم رأي إيجابي في الولايات المتحدة، مقارنة بـ48% في أغسطس 2024، وفي استطلاع أحدث أجرته صحيفة Berlingske، وصف 41% من الدنماركيين أميركا بأنها “تهديد لبلدهم”.
وقال راسموس يارلوف، وهو ووزير سابق للأعمال ونائب في البرلمان عن المعارضة المحافظة: “إنه تغيير كبير جداً وفي وقت قصير جداً.. لطالما اعتبرنا الولايات المتحدة أقرب حليف لنا”. وأضاف أن هذا التحول بات ملموساً في مواقف الناس العاديين.
وأضاف: “لم يعد من اللائق السفر في عطلة إلى الولايات المتحدة، بل أصبح أمراً يُستهجن، حتى في بيتي، توقفنا عن شراء كاتشب هاينز”.
خلاف حاد مع الأميركيين
وتفاجأت رئيسة وزراء الدنمارك، ميته فريدريكسن، عندما طرح ترمب مطلبه بضم جرينلاند في أول محادثة بينهما بعد فوزه بولاية ثانية، بحسب دبلوماسيين. ثم صعّد ترمب الموقف لاحقاً قائلاً إنه لا يستبعد استخدام القوة العسكرية للاستيلاء على الجزيرة.
في مارس، زار نائب ترمب جاي دي فانس قاعدة أميركية في شمال جرينلاند وقال: “الدنمارك لم تقم بعمل جيد في الحفاظ على أمن جرينلاند، وستكون الجزيرة أكثر أماناً تحت المظلة الأميركية”.
وفي مقابلة مع وكالة الأنباء ريتزاو، في يونيو، قالت رئيسة الوزراء الدنماركية: “لدينا خلاف حاد وأساسي مع الأميركيين”.
ولم يُطرح موضوع جرينلاند خلال قمة حلف الناتو في لاهاي، في يونيو، لكن المسؤولين الدنماركيين يعتقدون أن الملف لم يُغلق، وأن ترمب لا يزال يطمح إلى ضم الجزيرة بطريقة أو بأخرى.
في إطار ردها، عززت الدنمارك انخراطها مع حكومة جرينلاند الذاتية، التي تسعى لاستقلال تام لكنها ترفض الانضمام إلى الولايات المتحدة.
وحصل الائتلاف الحاكم في الجزيرة، الذي تشكل كرد فعل على التهديدات الأميركية، على نحو 74% من الأصوات في انتخابات مارس، ويجري حالياً مفاوضات مع كوبنهاجن لتوسيع صلاحيات الحكم الذاتي القائمة.
وقال كريستيان رابيرج مادسن، وهو نائب بارز عن حزب الديمقراطيين الاجتماعيين الحاكم: “موقفنا واضح تماماً.. نرغب في التعاون مع الولايات المتحدة بالشؤون الأمنية في أقصى الشمال، وننظر إليها دائماً كحليف مهم وقوي”.
وتابع: “لكن مستقبل جرينلاند لا يُقرَّر لا في كوبنهاجن ولا في واشنطن، بل يُقرَّر في جرينلاند من قِبل شعبها، ونحن سعداء لأن لدينا دعماً قوياً من الحلفاء الأوروبيين في هذا الظرف الصعب”.
وفي حال أقدمت الولايات المتحدة على غزو عسكري مباشر، يُدرك القادة الدنماركيون أنه ليس هناك الكثير مما يمكنهم فعله، إذ تحتفظ بلادهم بوجود عسكري محدود جداً في جرينلاند.
وقال المحلل العسكري الدنماركي بيتر فيجو ياكوبسن: “أعتقد أن قواعد الاشتباك ستكون ببساطة: سَلِّموا المفاتيح واركبوا أول طائرة إلى الوطن لأننا لا نملك ما يكفي للمقاومة، ولن يكون من المجدي القتال: لدينا 4 زلاجات كلاب وبعض الشرطة المدنية، هذا كل شيء”.
وعندما سُئل وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث في جلسة استماع بالكونجرس الشهر الماضي عمّا إذا كان لدى البنتاجون خطط لغزو جرينلاند، أجاب: “مهمتنا في وزارة الدفاع هي أن نكون مستعدين لأي سيناريو محتمل”، ورفض تقديم تفاصيل.
استبعاد فكرة الغزو المباشر
رغم ذلك، فإن غزواً صريحاً يبدو غير مرجّح، على الأقل في الوقت الراهن، حتى بالنسبة لأكثر السياسيين الأوروبيين تشاؤماً، بحسب “وول ستريت جورنال”.
وسُئل كبار المسؤولين في عدة دول أوروبية عن كيفية ردهم على استيلاء عسكري أميركي على جرينلاند، فرفضوا الفكرة بوصفها “سيناريو غير مرجح إلى حد كبير”.
وقال وزير الدفاع السويدي بول يونسن: “ينبغي التعامل مع أي خلاف بين الحلفاء بطرق سلمية”.
لكن الحلفاء الأوروبيين، خصوصاً فرنسا، بدأوا فعلاً بدعم الدنمارك في الخفاء، مع محاولات لإقناع ترمب بالتخلي عن موضوع جرينلاند كلياً.
في يونيو، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة إلى جرينلاند، برفقة رئيسة وزراء الدنمارك، وأعلن عن استثمارات جديدة وافتتاح قنصلية فرنسية في العاصمة نُوك، حيث لا يوجد سوى بعثتين أجنبيتين: من آيسلندا والولايات المتحدة.
وقال ماكرون، أول رئيس دولة يزور الجزيرة منذ سنوات: “الجميع في فرنسا، وفي الاتحاد الأوروبي، يرون أن جرينلاند ليست للبيع، ولا يُسمح بأخذها بالقوة”.
وتابع: “الوضع في جرينلاند يُعدّ جرس إنذار للأوروبيين جميعاً، وأقولها بوضوح: أنتم لستم وحدكم، وعندما يُوجَّه إليكم تهديد استراتيجي، فإن الأوروبيين يعتبرونه موجّهاً إلى أرض أوروبية”.
ويحذر العديد من المسؤولين الأوروبيين من أن أي تحرك أميركي أحادي للسيطرة على جرينلاند قد يؤدي إلى انهيار التحالف عبر الأطلسي كما نعرفه، وإلى توقف التجارة بين أوروبا والولايات المتحدة.
وقال النائب الدنماركي ووزير الخارجية السالق مارتن ليديجورد: “سيكون ذلك عملاً متطرفاً للغاية، يتناقض تماماً مع تاريخنا المشترك”. وتابع: “وإذا تم ذلك ضد إرادة شعب جرينلاند، فسيُشكل ضرراً جسيماً ليس فقط للعلاقات الأميركية-الدنماركية، بل للتعاون الأميركي-الأوروبي ككل”.