رحل في ميلانو، الفنان الإيطالي أرنالدو پومودورو، الذي غيّر وجه النحت المعاصر، عن عمر ناهز 99 عاماً.
وأعلنت المؤسسة التي تحمل اسمه، ومديرتها كارلوتا مونتيبيلو، نبأ الوفاة بكلمات تعبّر عن مدى تأثير هذا الفنان الكبير على الفن العالمي قائلة: “برحيله، يفقد عالم الفن أحد أكثر أصواته هيبة ورؤيوية. ترك پومودورو إرثاً هائلاً ليس بقوة أعماله المعترف بها عالمياً فحسب، بل بفكره ورؤيته القادرة على النظر إلى المستقبل بطاقة إبداعية لا تنضب”.
فيديريكو فيليني
ولد آرنالدو پومودورو في 23 يونيو 1926، في بلدة مورتشيانو دي رومانيا، قرب مدينة ريميني، التي ولد فيها قبل ذلك بست سنوات عملاق السينما العالمية فيديريكو فيليني، وبدأ مسيرته مهندساً ومسّاحاً للأراضي، قبل أن يقتحم عالم الفن عبر صياغة الذهب والديكور المسرحي. إلا أنه سرعان ما وجّه مسيرته نحو النحت، مشكّلًا منذ خمسينيات القرن الماضي، لغة تشكيلية خاصة، ترتكز على صرامة الأشكال الهندسية وجرأتها التعبيرية.
نحت يخترق الزمن
ومن بين أبرز ما ميّز أعمال پومودورو، قدرته على جعل البرونز ينبض بالحياة، وكأنه كائن عضوي. منحوتاته، ولا سيما “الكرات المتفتحة”، المنتشرة في أهم الساحات وفي واجهة المؤسسات العالمية، من بينها الأمم المتحدة في نيويورك، ومتاحف الفاتيكان، وكلية ترينيتي في دبلن، وأمام مبنى “فارنيزينا”، مقر وزارة الخارجية الإيطالية.
كرات تبدو من الخارج لامعة وكاملة، لكن داخلها يكشف عن عالم ميكانيكي متشظٍ، معقّد، كأنها أداة لتشريح الروح البشرية. لقد نحت العالم وكأنه ذاكرة، واستخدم المعدن كجسد يحمل ندوب الإنسان الحديث.
شقوق في الشكل المثالي
وربما أكثر ما يلفت في أعماله، هو تلك الشقوق التي تمزّق الشكل المثالي من الداخل، وكأن الحقيقة لا تسكن في سطح الأشياء، بل في كسورها. في كل منحوتة، ثمّة ما يشبه المتاهة، وكل صدع يشبه عتبة نحو باطن الوجود. كما قال مرة: “ما أبحث عنه هو أن أخلق أماكن تُعاش، تُمَسّ، تُسبَر. لا أُحب النحت بوصفه جسماً مغلقاً. النحت عندي كائن متحرّك، فضاء منفتح”.
في متاهة جلجامش.. من الشرق إلى البرونز
في أعماله الأولى، اشتغل پومودورو على نقوش بارزة تخترقها كتابة مسمارية، شبيهة بالنقوش السومرية القديمة. ليست تلك الأحرف نقلاً مباشراً من أبجديات معروفة، بل حروف اخترعها بنفسه، أقرب إلى “كتابة زمنية” كما وصفها، تستخدم الخط والرمز لتشكيل معمارٍسردي بلا كلمات.
هذا التوظيف للرمز الكوني، ولأثر الحضارات الشرقية القديمة، يتكرر في أعماله، وخصوصاً في مشروعه الضخم “Ingresso nel Labirinto” أو “الولوج إلى المتاهة”، المستوحى من ملحمة جلجامش، الذي أنجزه في شكل تركيب بيئي، يدمج العمارة بالنحت، في تجربة حسية تمسّ حدود الأسطورة.
تناول نُقّادٌ كبار، من بينهم، جيلو دورفليس وأكيلي بونيتو أوليفا ،هذه الكتابات الشبيهة بالمسمارية في منحوتات أرنالدو بومودورو؛
في كتابه “Libro per le sculture di Arnaldo Pomodoro” الصادر عام 1974، علّق دورفليس على النقوش الموجودة في منحوتات بومودورو الأولى، لا سيما في عمل “عمود المسافر” (1959–1960)، التي توصف غالباً بأنها “كتابة مسمارية”؛ يقول دورفليس: “كانت تلك الكتابات عبارة عن آلات إنسانية، آلات غير وظيفية، لكنها امتلكت نفس القيمة التي امتلكتها الحجارة المقدسة القديمة، أو المدن الكونية القديمة. لذا، كان من المنطقي أن يستخدم بومودورو تلك العلامات الخاصة، التي لا تحمل أي دلالة لغوية محددة، والتي لا يعرف هو نفسه معناها، ليعبّر من خلالها عن رسالته الخاصة؛ وهذه العلامات لا ينبغي فهمها، كما ظنّ بعض النقاد، كإشارات إلى ثقافات قديمة أو أبجديات أثرية”.
يؤكد دورفليس على الطابع غير اللغوي لتلك العلامات، قائلاً: “علامات لا تحمل أي معنى لغوي ولا يمكن ربطها بأي أبجديات قديمة”.
ورغم أني لن اعثر عند أكيلي بوتيتو أوليفا على اقتباسات مباشرة تتعلق بالكتابة المسمارية” في أعمال بومودورو، فإن مقاربته النقدية، لا سيما في إطار تيار ما بعد الحداثة، الذي عُرف بـ”التجاوز الفني” (Transavanguardia)، تظهر اهتماماً كبيراً بالعلاقة بين الرمز، والذاكرة، والمادة.
واعتماداً على ذلك، يمكن القول إن بونيتو أوليفا كان ليرى في تلك العلامات التي تبدو “ما قبللغوية”، شكلًا من أشكال الكتابة المادية للاوعي، وتعبيراً عن تراثٍ جماعي مشترك، بما يتماشى مع رؤيته للنحت والفن بوصفهما “حقلاً سحرياً”، يستدعي الرموز الجماعية.
لغة النحت: الصراع بين الداخل والخارج
ابتداءً من ستينيات القرن العشرين، اتجه پومودورو إلى الاشتغال على الأشكال الهندسية الكلاسيكية، مثل الكُرات، الأقراص، الأعمدة، والمخاريط، مشغولة من برونز لامع، ولكنها دوماً متصدّعة أو مفتوحة من الداخل. يُخفي كل سطح خارجي مصقول قلباً داخلياً فوضوياً: في رمزية صافية للتوتر ما بين المظهر والجوهر.
هذه “المفارقة البصرية”، كما أحبّ أن يسميها هو نفسه، أصبحت علامته الأسلوبية المميزة، وتحوّلت كل واحدة من منحوتاته إلى بنية معمّقة، قابلة للاختراق والتأمل.
أشهر أعماله
“كرة داخل كرة”، (1966)
“القرص الشمسي، (1991) الذي أُهدي إلى روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
“بابيروس”، (1992) في دارمشتات الألمانية.
“الرمح الضوئي”، (1995) في مدينة تيرني الإيطالية.
البوابة البرونزية لكاتدرائية مدينة تشيفالو الصقلية، (1998).
كما صمم مشاهد مسرحية مؤثرة للأعمال التراجيدية والإغريقية، ونال عنها جائزة “أوبّو” للمسرح.
إرث فني وروحي
عُرضت أعمال الفنان الراحل في أهم المتاحف العالمية، مثل متحف الفن الحديث في باريس، وجاليري مارلبورغ في نيويورك، وحصن بيلڤيديري في فلورنسا، ومتحف هاكوني المفتوح في اليابان، فضلًا عن عشرات المعارض الجوّالة حول أوروبا وأميركا واليابان وأستراليا.
درّس آرتالدو پومودورو في جامعات مثل ستانفورد، بيركلي، وكلية ميلز، ونال جوائز عالمية أبرزها:
جائزة بينالي ساو باولو (1963)
جائزة بينالي فينيسا (1964)
جائزة كارنيغي (1967)
جائزة هنري مور (1981)
الجائزة الإمبراطورية اليابانية للنحت (1990).