تفادى الاتحاد الأوروبي حرباً تجارية وشيكة مع الولايات المتحدة هذا الأسبوع، بعد إعلان التوصل إلى اتفاق تجاري مع الرئيس دونالد ترمب، لكن تقلب الأسواق وموجة متزايدة من الانتقادات، واتهامات لبروكسل بـ”الاستسلام”، مع اتساع موجة رفض الاتفاق بين قادة الاتحاد، بددت الآمال المبكرة في عودة الشعور بالاستقرار إلى العلاقات عبر المحيط الأطلسي.
وتسارع القيادات التنفيذية في الاتحاد الأوروبي، إلى وضع اللمسات النهائية على الاتفاق، على الرغم من الانتقادات المتصاعدة من عدد من زعماء دول التكتل.
وسجل اليورو أكبر انخفاض خلال أكثر من شهرين مقابل الدولار، الاثنين، وتراجع بأكثر من 1%، وذلك بعد أن ارتفعت العملة الموحدة إلى أعلى مستوياتها في 3 سنوات تقريباً الأسبوع الماضي على خلفية احتمالية التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، وفق “بلومبرغ”.
ووافق الاتحاد الأوروبي، الأحد، على قبول تعريفة جمركية بنسبة 15% على معظم صادراته، في حين أن متوسط معدل التعريفة الجمركية للكتلة على السلع الأميركية يجب أن ينخفض إلى أقل من 1% بمجرد دخول الاتفاق حيز التنفيذ.
كما قالت بروكسل أيضاً، إنها ستشتري منتجات طاقة أميركية بقيمة 750 مليار دولار أميركي (638مليار يورو)، وستستثمر 600 مليار دولار أميركي إضافية في الولايات المتحدة.
بروكسل: أفضل صفقة ممكنة
وتقول بروكسل، إنها أبرمت أفضل صفقة تجارية ممكنة مع واشنطن، حتى لو لم تصدق عليها باريس وعواصم أوروبية أخرى، بحسب مجلة “بوليتيكو”.
وأشارت المجلة، الاثنين، إلى أنه في محاولة أخيرة لتجنب تهديد ترمب برفع الرسوم الجمركية على معظم سلع الاتحاد الأوروبي إلى 30% في الأول من أغسطس، سافرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الأحد، مع فريقها المفاوض إلى منتجع تيرنبيري للجولف باسكتلندا، وفي غضون ساعة تقريباً، أبرمت اتفاقاً مبدئياً.
وقالت فون دير لاين، إن الولايات المتحدة وافقت على خفض الرسوم الجمركية الثنائية إلى صفر على بعض المنتجات الاستراتيجية، بما في ذلك الطائرات وقطع غيارها، وبعض الأدوية، ومعدات أشباه الموصلات وبعض المنتجات الزراعية.
ورغم الانتقادات، تصر المفوضية، التي تتولى الشؤون التجارية للاتحاد الأوروبي، على أن هذا هو المسار الوحيد الذي يجب اتباعه.
وقال المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي، ماروش شيفتشوفيتش، الاثنين: “من الواضح أن هذا هو أفضل اتفاق يمكن أن نحصل عليه في ظل ظروف صعبة للغاية”.
وأضاف شيفتشوفيتش للصحافيين، أن الاتفاق، الذي يفرض تعريفة جمركية بنسبة 15% على معظم الواردات من الاتحاد الأوروبي “ينقذ التدفقات التجارية وينقذ الوظائف في أوروبا ويفتح فصلاً جديداً في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة”.
وتابع: “الأمر لا يتعلق فقط… بالتجارة: إنه يتعلق بالأمن وأوكرانيا والتقلبات الجيوسياسية الحالية”، مشيراً إلى أن ضمان استمرار دعم واشنطن العسكري لأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، لعب دوراً محورياً في المفاوضات، وفي دفع بروكسل إلى إبرام الاتفاق.
وبينما يعتقد منتقدون أنه كان ينبغي على بروكسل أن تتخذ موقفاً أشد صرامة؛ أكد المفوض التجاري شيفتشوفيتش، أن قول ذلك أسهل من فعله.
انتقادات وتحذيرات أوروبية
لكن في الوقت الذي أشادت فيه السلطة التنفيذية في الاتحاد الأوروبي بمجرد التوصل إلى اتفاق باعتباره نجاحاً، لم يُرضِ ذلك بعض الدول الأوروبية ذات الثقل في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وجماعات الضغط الصناعية، التي اتهمت بروكسل بـ”الاستسلام بسهولة” لمطالب ترمب.
ويبدو أن المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، الذي رحب في البداية بالاتفاق باعتباره “نجح” في تجنب الصراع التجاري، وتمكين الاتحاد الأوروبي من حماية مصالحه، فقد حماسه تجاه الاتفاق، إذ قال للصحافيين، الاثنين: “الاقتصاد الألماني سيعاني من أضرار كبيرة من هذه التعريفات الجمركية”.
وأضاف ميرتس: “أنا واثق من أن هذا لن يقتصر على ألمانيا وأوروبا. سنشهد أيضاً تداعيات هذه السياسة التجارية في أميركا”.
وبخلاف المستشار الألماني، ورئيس وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، اللذين سارعا في البداية إلى الترحيب بالاتفاق، التزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصمت، في حين انتقد رئيس وزرائه فرانسوا بايرو الاتفاق ووصفه بأنه “خضوع” لواشنطن.
وقال بايرو عبر حسابه على منصة التواصل “إكس”: “إنه يوم كئيب عندما يترك تحالف من الشعوب الحرة، التي تجمعت معاً لتأكيد قيمها المشتركة والدفاع عن مصالحها المشتركة، نفسه للاستسلام”.
من جانبها، اعتبرت كارين كارلسبرو، العضو السويدي في لجنة التجارة في البرلمان الأوروبي، في بيان أن “مبادئ التجارة الحرة التي دعمت الازدهار عبر الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يجري تفكيكها بشكل منهجي”، مضيفة: “خطر التهميش الاقتصادي والسياسي الأوروبي يزداد مع كل تنازل يجري تقديمه”.
وقالت فاليري هاير، زعيمة “مجموعة التجديد الليبرالية” في البرلمان الأوروبي، التي انضمت إلى مجموعة من السياسيين الفرنسيين الرافضين للاتفاق: “الدرس المستفاد من هذا الاتفاق: نحن عملاق اقتصادي ولكننا قزم سياسي”.
وقال بيرند لانج، وهو عضو في الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا، الذي يرأس لجنة التجارة في البرلمان الأوروبي، لـ”بوليتيكو”: “لقد انتصر ترمب، لا شك في ذلك”.
وقال اتحاد الصناعات الألمانية (BDI)، وهو لوبي الصناعة الرئيسي في ألمانيا، إن ذلك (الاتفاق) أرسل “إشارة قاتلة” فيما يتعلق بمستقبل التجارة عبر الأطلسي.
وفي فرنسا، قالت جمعية أرباب العمل الفرنسية “ميديف” (MEDEF)، إن النتيجة أظهرت أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يعاني من أجل كسب الاحترام، في حين قال اتحاد الشركات الصغيرة والمتوسطة في البلاد إن الاتفاق سيكون له “تأثير كارثي”.
بيان غير مُلزم قانونياً
سيسعى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى التوصل إلى بيان مشترك غير مُلزم قانونياً بحلول الأول من أغسطس، والذي سيتوسع في بعض العناصر التي جرى التفاوض بشأنها خلال عطلة نهاية الأسبوع بحسب مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي.
وبمجرد الانتهاء من البيان، ستبدأ الولايات المتحدة في خفض تعريفاتها الجمركية على قطاعات محددة، لا سيما السيارات وقطع غيار السيارات، التي تواجه حالياً ضريبة بنسبة 27.5%.
وقال المسؤول، الذي طلب عدم كشف هويته، إن الجانبين سيبدآن بعد ذلك العمل على نص ملزم قانونياً. ليس من الواضح محتوى هذه الوثيقة وشكلها القانوني، لكنها ستتطلب دعم أغلبية مؤهلة على الأقل من دول الاتحاد الأوروبي وربما البرلمان الأوروبي.
وأضاف أن التوصل إلى توافق في الآراء بشأن النص القانوني قد يستغرق وقتاً طويلاً؛ فالعديد من الاتفاقات التجارية تتطلب سنوات من المفاوضات، موضحاً أن الاتحاد الأوروبي لن يبدأ في تنفيذ الشروط التي وافق عليها، مثل خفض التعريفات الجمركية على المنتجات الأميركية، إلا بعد الموافقة على هذا النص القانوني.
وأشار المسؤول الأوروبي إلى أن المناقشات جارية حول ما إذا كانت بعض السلع، مثل الخمور والمشروبات الروحية، سيجري إعفاؤها من نسبة التعريفة الجمركية البالغة 15%.
كما يضغط الاتحاد الأوروبي من أجل فرض حصة على المعادن من شأنها أن تخفض الرسوم على حجم معين من السلع، في حين أن كل ما يتجاوز هذا، سيدفع معدل الـ50%، وفقاً لما ذكره المسؤول الأوروبي.
فيما قال أوليفر راكاو كبير الاقتصاديين الألمان في شركة الاستشارات الاقتصادية “أوكسفورد إيكونوميكس” Oxford Economics في مذكرة، إن “الاتفاق يزيل بعض المخاطر السلبية المترتبة على الاتفاق، ولكنه يفتقر إلى التفاصيل، التي سيتعين صياغتها خلال الأسابيع المقبلة، ما قد يؤدي إلى تقلبات جديدة. وحالة عدم الاستقرار من المرجح أن تظل مرتفعة”.
اجتماع أوروبي ونقاط شائكة
ومن المقرر أن يجتمع سفراء الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء، لمناقشة الوضع التجاري، بحسب “بلومبرغ”، التي رجحت أن إحدى النقاط الشائكة المحتملة في المفاوضات، هي صادرات الاتحاد الأوروبي من المعادن، التي يبلغ معدل التعريفة الجمركية عليها حالياً 50%.
ونقلت عن المدير العام لرابطة الصلب الأوروبية، أكسل إيجيرت، قوله: “لا يزال الغموض يكتنف جميع التفاصيل المتعلقة بصناعة الصلب الأوروبية”.
وهناك مشكلة أخرى محتملة تتمثل في وعد الاتحاد الأوروبي بشراء 750 مليار دولار من واردات الطاقة الأميركية على مدى 3 سنوات، وهو عنصر أساسي لإتمام الاتفاق. فمن الصعب إدراك كيف سيحقق الاتحاد الأوروبي مثل هذه التدفقات الطموحة خلال هذا الإطار الزمني القصير.
والعام الماضي، بلغ إجمالي واردات الطاقة من الولايات المتحدة، أقل من 80 مليار دولار، وهو أقل بكثير من الوعد الذي قطعته فون دير لاين للرئيس ترمب، فيما بلغ إجمالي صادرات الطاقة الأميركية ما يزيد قليلاً عن 330 مليار دولار في عام 2024.
كما أن تعهد الاتحاد الأوروبي باستثمار 600 مليار دولار إضافية في الولايات المتحدة ينطوي على نفس القدر من الإشكالية. لكن المسؤول الأوروبي أوضح أن الاستثمار هو مجرد تجميع لتعهدات الشركات وليس هدفاً ملزماً، لأن المفوضية الأوروبية لا يمكنها الالتزام بهذا الهدف.
وقد أثرت حالة عدم الاستقرار الناجمة عن الحرب التجارية على التوقعات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، حيث خفضت المفوضية في مايو الماضي توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام إلى 1.1%. وتوقعت معدل 1.5% في نوفمبر.