تعيش منطقة الشرق الأوسط على وقع تصعيد غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، وصل إلى مرحلة كسر التوازن الاستراتيجي، وأعاد صياغة قواعد الاشتباك بين الطرفين. فقد خرجت المواجهة من دائرة الحرب بالوكالة والضربات المحدودة، إلى حالة من الانخراط المباشر بين دولتين تمتلكان قدرات عسكرية ضخمة وطموحات متضاربة، وسط موقف دولي معقد ومواقف إقليمية متباينة.

 

هذا التصعيد لا يعكس فقط رغبة إسرائيل في تحجيم القدرات الإيرانية، بل يشير إلى مرحلة جديدة من التنافس على زعامة الإقليم، وتحولات محتملة في شكل النظام الإقليمي القائم منذ عقود.

 

مفاجأة غير محسوبة.. إيران في عزلة استراتيجية

بدأت المواجهة الكبرى بضربة إسرائيلية مفاجئة، وُصفت بأنها الأضخم منذ عقود، استهدفت العمق الإيراني في عملية عسكرية نوعية تحت اسم “الأسد الصاعد” في 13 حزيران/يونيو 2025، حيث دُمّرت خلالها 300 هدف حساس في طهران ومحيطها، بينها منشآت نووية ومقار أمنية وقيادية.

 

الباحث في الشأن الإيراني ضياء قدور في حديث مع وكالة ستيب نيوز يصف الموقف الإيراني بأنه “سقوط في فخ مواجهة غير محسوبة”، حيث لم تتوقع طهران هذه الدرجة من التصعيد المباغت، ووجدت نفسها في عزلة استراتيجية. إذ يشير إلى أن إيران تواجه هذه الحرب دون دعم مباشر من حلفائها الكبار، مثل روسيا والصين، الذين يواجهون مشاكل داخلية وخارجية تجعلهم غير قادرين على تقديم دعم نوعي.

 

يضيف قدور أن إيران وقعت في خطأ التقدير الاستراتيجي، معتقدة أن إسرائيل لن تُقدم على تصعيد بهذا الحجم دون غطاء أميركي أو إقليمي، لكنها فوجئت بأن تل أبيب استغلت لحظة ضعف إقليمي وتردد دولي لتحقيق ضربة استباقية ذات أثر استراتيجي.

 

المفاجأة العسكرية وتآكل الردع الإيراني

أحد أبرز مظاهر هذا التصعيد، وفقًا لقدور، هو عنصر المفاجأة، الذي مكّن إسرائيل من تحقيق تفوق ميداني كبير خلال الساعات الأولى. فقد تأخرت إيران في الرد قرابة 12 ساعة، وهو وقت كافٍ لإسرائيل لتعطيل أجزاء من المنظومة الدفاعية الإيرانية وضرب مخازن صواريخ رئيسية.

 

كما يشير إلى تراجع قدرة الردع الإيرانية بشكل ملموس، حيث تُظهر البيانات أن كل غارة إسرائيلية تحقق أهدافها، بينما الصواريخ الإيرانية تعاني من محدودية التأثير، سواء من حيث الدقة أو القدرة التدميرية.

 

ويؤكد أن أذرع إيران الإقليمية، التي كانت تشكّل جزءًا أساسيًا من منظومة الردع غير المباشر، أصبحت غير مستعدة لخوض مواجهة بهذا الحجم، ما جعل طهران تواجه الضغوط بمفردها تقريبًا.

 

أذرع إيران.. بين الاستنزاف والتجميد

من جانبه يرى الدكتور مسعود إبراهيم الباحث في الشأن الإيراني، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز، أن أذرع إيران في العراق ولبنان، وخصوصًا “حزب الله” و”الحشد الشعبي”، فقدت جزءًا كبيرًا من قدراتها في العام الأخير نتيجة لضربات نوعية استهدفت بنيتها القيادية والعسكرية.

ويضيف أن زج هذه الأذرع في مواجهة شاملة في الوقت الراهن سيكون مغامرة خطيرة قد تفتح الباب لتدخل أميركي مباشر، وهو ما يجعل طهران تمنح حلفاءها بعض الوقت لإعادة ترتيب الصفوف.

 

ويؤكد أن “حزب الله” تكبّد خسائر قاسية خلال العام الأخير، حيث فقد الصفين الأول والثاني من قياداته الميدانية، مما يعني أنه غير جاهز لخوض حرب مفتوحة، خاصة إذا دخلت الولايات المتحدة على خط التصعيد.

 

مواقف القوى الكبرى.. دعم غربي ومناورة شرقية

من الناحية الدولية، يلفت إبراهيم إلى أن الموقف الغربي كان سريعًا وواضحًا في دعمه لإسرائيل. فقد أعلنت كل من الولايات المتحدة، فرنسا، وبريطانيا استعدادها الكامل لدعم تل أبيب عسكريًا واستخباراتيًا. في المقابل، بقي موقف روسيا والصين دون التوقعات الإيرانية، إذ اكتفيا بعرض وساطة لوقف إطلاق النار، دون تقديم دعم عسكري أو لوجستي مباشر.

 

ويعتبر إبراهيم أن إيران وجدت نفسها في موقع “المنعزل الدولي”، باستثناء دعم محدود من باكستان التي ساعدت في إعادة تشغيل منظومات دفاعية أُعطبت بفعل الهجمات السيبرانية الإسرائيلية، وهو دعم نوعي لكنه لا يُعادل قوة الزخم الإسرائيلي المدعوم من الغرب.

 

ضربة نوعية واستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد

وبدوره يرى الدكتور سمير العبد الله، الباحث السياسي في مركز حرون للدراسات أن الضربة الإسرائيلية لم تكن مجرد تحرك عسكري تكتيكي، بل تمثل تغييرًا جوهريًا في استراتيجية إسرائيل تجاه إيران. فعملية “الأسد الصاعد” استهدفت القيادة النووية والعسكرية الإيرانية، وليس فقط مواقع تخزين أو لوجستيات.

 

ويضيف أن إسرائيل حاولت من خلال هذا الهجوم إعادة هندسة قواعد اللعبة، من خلال إضعاف قدرة إيران على الردع التقليدي وغير التقليدي، وجعلها في موقع المتلقّي، بعد أن كانت لعقود تمسك بأوراق كثيرة في الإقليم.

 

ويصف الضربة بأنها “عملية تفكيك” للعمق الاستراتيجي الإيراني، تهدف إلى إحداث انهيار تدريجي في البنية السياسية والأمنية، وليس فقط ضرب منشأة نووية.

 

الرد الإيراني.. محدودية في التأثير رغم الإمكانات

يرى كل من قدور وإبراهيم أن الرد الإيراني لم يكن بمستوى الحدث. فقد اقتصرت عملية “الوعد الصادق 3” على إطلاق صواريخ باليستية، أصابت بعضها أهدافًا في الداخل الإسرائيلي، لكنها لم تغيّر شيئًا في ميزان القوى.

ويؤكد إبراهيم أن هذا الرد لم يكن متناسبًا مع حجم “اللطمة” التي تعرّض لها النظام الإيراني، الذي خسر قادة كبارًا في الحرس الثوري، إضافة إلى دمار واسع في منشآت استراتيجية.

 

رغم ذلك، يرى إبراهيم أن إيران لا تزال تحتفظ بقدرات مهمة، من بينها مخزون كبير من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، والطائرات المسيّرة، ويمكنها استخدام هذه الأدوات لشن حملة استنزاف طويلة، مع الاحتفاظ بخيار التصعيد المفاجئ في حال تطلب الأمر.

 

السيناريوهات المتوقعة بحرب إيران وإسرائيل

يرسم الدكتور سمير العبد الله ثلاثة سيناريوهات رئيسية لتطور الصراع، واولها الاحتواء وردع متبادل، حيث يتمثل في العودة إلى حالة من التوازن عبر ضربات محدودة وحذرة، مع بقاء قنوات الوساطة نشطة، وهو سيناريو تُفضّله القوى الدولية.

 

اما السيناريو الثاني فهو الانهيار التدريجي للنظام الإيراني، حيث إسرائيل وأميركا تستثمران الضربة لتكثيف الضغوط، ما قد يؤدي إلى تصدعات داخل النظام الإيراني وتراجع نفوذ أذرعه.

 

بينما يعتقد العبد الله أن السيناريو الثالث هو الانفجار الإقليمي الكبير، ففي حال دفعت إيران حلفاءها لفتح الجبهات في لبنان والعراق واليمن، مع تنفيذ عمليات بحرية أو سيبرانية، ما قد يدفع أميركا للتدخل المباشر.

 

أما الدكتور مسعود إبراهيم فيضيف سيناريو رابعًا قائمًا على المواجهة الطويلة، حيث تدخل الأطراف في نمط من “الضرب والرد” غير المتكافئ، ما يؤدي إلى استنزاف طويل دون حسم، خاصة إذا بقي الرد الإيراني دون مستوى الضربة الإسرائيلية.

 

إسرائيل والتفاوض.. ضغوط أم تحضيرات لعملية كبرى؟

فيما يتعلق بالأهداف الإسرائيلية البعيدة، يشير إبراهيم إلى أن إسرائيل لا تريد فقط توجيه ضربة تكتيكية، بل تسعى إلى إنهاء المشروع النووي الإيراني بالكامل، وهي تعتبر أي مساومة على هذا الهدف تهديدًا وجوديًا. في المقابل، تصر إيران على أن برنامجها النووي “حق سيادي”، وترفض شروط التفكيك الأميركية.

 

وبالتالي، فإن الضربة الأخيرة تأتي في سياق فرض وقائع على الأرض لخلق شروط تفاوض جديدة أكثر صرامة، أو لتمهيد الطريق أمام ضربة أكبر إذا تعثرت المساعي السياسية.

 

الشرق الأوسط أمام لحظة مفصلية

تُجمع تحليلات الخبراء على أن الضربة الإسرائيلية الأخيرة شكّلت نقطة تحوّل في الصراع مع إيران، فهي ليست مجرد تصعيد، بل “لحظة كسر توازن” قد تقود إلى إعادة تشكيل كامل لمعادلات القوة في الإقليم.

 

وما سيحدد مسار المرحلة المقبلة هو قدرة إيران على امتصاص الصدمة، وإعادة بناء قدراتها العسكرية، مع الحفاظ على شبكة أذرعها الإقليمية، فإن نجحت في ذلك، قد تجرّ إسرائيل إلى حرب استنزاف طويلة، أما إذا عجزت، فإن الباب سيكون مفتوحًا على حرب شاملة أو تسوية قسرية ترسم مستقبل المنطقة لعقود قادمة.

 

اقرأ أيضاً|| ضربة إسرائيلية تهز إيران.. خبير يكشف كيف اخترق “الموساد” قلب طهران بعملاءٍ على الأرض

4 سيناريوهات في حرب إيران وإسرائيل وقواعد اللعبة تتغير في الشرق الأوسط

 

إعداد: جهاد عبد الله

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية

شاركها.