50 عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية كيف نوثق حرباً لم تنته؟

يحفظ اللبنانيون تاريخ 13 نيسان 1975، على أنه تاريخ بدء الحرب اللبنانية، وينسبون لما اتفقوا على تسميته حادثة “بوسطة عين الرمانة”، كشرارة الحرب الأولى، كما ينسبون موعد الخروج من الحرب، إلى إعلان اتفاق الطائف مطلع عام 1990. لكن الحرب التي لم تبدأ فعلاً في لبنان عام 1975، لم تنته كذلك فعلاً عام 1990.
وعليه، وبمناسبة مرور نصف قرن على ذلك “الوهم”، يحاول مركز أمم للتوثيق والأبحاث، عرض سرديات فنية مختلفة عن الحرب التي بدأت ولم تنتهِ، في مركزه “الهنغار”من خلال معرض بعنوان “خمسون عاماً.. حادثة واحدة حروب كثيرة” أو “50 years of Déjà vu”.
أغراض الحرب
يضم المعرض أعمالاً لأربعة فنانين موزّعة في صالتين، في الصالة الكبيرة عرض لعمل تجهيز متعدد الوسائط بعنوان: “أغراض حرب” للميا جريج، عبارة عن سلسلة شهادات عن الحرب اللبنانية، لمواطنين ومقيمين في لبنان، غالبيتهم من المدنيين الذين عاشوا الحرب صغاراً أو كباراً.
اختار كلّ منهم غرضاً ما ليروي قصّته أو ذكرياته مع الحرب انطلاقاً منه. العمل تضمن أغراضاً وشهادات لكثيرين، من بينهم الفنانة إيتيل عدنان، حسن داوود، يوسف بزي، شذى شرف الدين، سمير فرنجية، أكرم زعتري، صالح بركات، رشا سلطي، أسما أندراوس، فوزية شحرور، جلال توفيق وآخرين.
بدأ تصوير هذا العمل عام 1999، ويتم عرضه للمرّة الأولى في لبنان. تقول لميا جريج: “بدأت مقابلاتي مع الأصدقاء، ثم مع معارف وأصدقاء الأصدقاء، كان همي الاستماع إلى شهادات مدنيين لا محاربين، ولدوا قبل أو خلال الحرب، وعاشوا في مناطق متنوّعة، وأن أجمع سرديات مختلفة من وجهات نظر عدّة، في محاولة لفهم كيف يمكن سرد التاريخ من قِبل الناس، وخصوصاً بعد صدور قانون العفو العام الذي غيّب المحاسبة، هذا العمل هو استعارة للغة التوثيق لاستخدامها في مجال الفن”.
ألفرد طرزي يدمج حرب لبنان بالاجتياح الإسرائيلي
يشهد المعرض عملاً للفنان المعروف ألفرد طرزي بعنوان “العشّاق: الجسد والأرض”، هو عبارة عن “صندوق عجائب” يعرض تاريخ بيروت من خلال كولاج متواصل بطول 12 متراً، يمتدّ من عام 1960 ولغاية الاجتياح الإسرائلي لبيروت عام 1982، يتتبّع فيه الفنان “ولادة وانهيار ظاهرتين شكّلتا هذه المدينة: التحرر الجنسي والثورة الفلسطينية”، من خلال متابعة حية لملكة جمال الكون لعام 1971 جورجينا رزق وحسن سلامة، رئيس جهاز الأمن في منظمة التحرير الفلسطينية، زوج جورجينا.
ويُعرض في الصالة الصغيرة فيلم “الخروج من البوسطة” لطلال خوري (7 دقائق و 35 ثانية) عن الحافلة التي احترقت، وفي الفيلم محاكاة فنية لهذا الاحتراق كأنه استمرار لا يتوقف للحريق الأصلي، شيء يشبه كابوس احتراق لا يتوقف فلا يخرج أحداً من البوسطة أبداً.
وعلى جدران الصالة أيضاً معرض بعنوان “بوسطة…وأشباهها” يضم لوحات للفنان حسام البقيلي، تجسّد البوسطة أيضاً “أيقونة في المخيلة التاريخية اللبنانية”.
في المعرض كذلك أثر من آثار الحرب اللبنانية، عبارة عن جزء من عامود إنارة فيه ثقوب، كان منصوباً على أحد “خطوط التماس”، تحديداً على منتصف ما كان يعرف بـ “محور مارمخايل – غاليري سمعان”.
وفي كلمات مؤسس “أمم” الراحل لقمان سليم عن الحرب التي تقتل وتبدع، كتب عن هذا الأثر/ العامود: “لا يصحّ لربما، أن توصف الثقوب التي تحمل هذا الجماد آثارها بـ “الجراح”، أو بـ “الندوب”، ولكن هذا التعذّر اللغوي، لا يقلل في شيء من مكانة هذا “الجماد” الذي يوثّق، في عداد ما يوثّقه، رصيد هذه المئوية من الفظاعات، التي لا نَني، حفظاً لما نظنه ماء وجه، نحاول مواراتها، والذي فيه بيان لما يعنيه أن تتكسّر النصال على النصال..”
في الصالة الكبيرة نسخُ للصفحات الأولى من الصحف اللبنانية معلّقة على الجدران، اختارها منسّق المعرض والقيّم عليه أيمن نحلة من أرشيف “أمم”، غطّت هذه الافتتاحيات أحداث مرتبطة بالحرب، بدءاً من 14 نيسان 1975، أي اليوم التالي لشرارة الحرب الأولى.
في المعرض أيضاً نسخ من صور مقاتلين وأماكن اقتتال، من أرشيف “أمم”، ونصّ لأيمن نحلة بعنوان: “تأطير بيروت: المقاتل المتصنّع والمدينة الموسومة”، يحكي فيه عن أداء المقاتل في الحرب، ووعيه لوجود المصوّر، “فلا يبدو كضحية للتاريخ بل كمن يصنعه”، ويحكي عن النباتات التي غزت الشارع ولم تكن عشوائية بل “شكل من أشكال بيئة الحرب”.
يختم نحلة النص بأنه “لعلّ ما يفسّر لماذا يعود 13 نيسان عاماً بعد عام، ليس لأنه البداية الحقيقية، بل لأنه صنع ليكون كذلك، فالذاكرة مثل الحرب، فعل بناء”.
حارة حريك
معلومٌ أن “الهنغار” يقع في منطقة حارة حريك في قلب “الضاحية الجنوبية” لبيروت، التي تعرّضت لغارات عنيفة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان (2024)، أما آخر غارة فكانت أثناء التحضير للمعرض، ما جعل القيّمين على الهنغار أمام تحدٍّ بشأن متابعة التحضير للمعرض.
يقول أيمن نحلة: كان القرار أن نمضي قدماً بالتحضير، مع الاستعداد لأن يتم إلغاء المعرض عند أي تحذير، وفي محاولة لتقليل المخاطر استبدلنا الأعداد الأصلية من افتتاحيات الصحف أو الصور المرمّمة، بنسخ عالية الجودة للحدّ من الخسائر في حال حصول أي عدوان أثناء إقامة المعرض”.
هذا الخوف أو الترقب بحد ذاته أو حتى الاستعداد لاحتمال وقوع ما من شأنه خسارة الأرشيف، يجعل طرح مسألة عدم انتهاء الحرب أمراً شرعياً. فأن تقضي حرب ما على أرشيف حرب، يفترض أنها انتهت، هو إثبات – غير مرحب به – على فرضية أن الحرب لم تنته.
في هذا السياق، تقول الناشطة والمسؤولة عن دار الجديد للنشر رشا الأمير، “إن هذه البلاد لا تحتاج إلى وزراء إعلام وثقافة، نحن بمسيس الحاجة إلى مؤسسات عملاقة تُعنى بالذاكرة، لتنقيتها ولبلوغ العدالة الانتقالية، الواقفة بالمرصاد للعفو العام ولعفا الله عن ما مضى” .
عشرون عاماً من التوثيق
بالتوازي مع المعرض، تحتفل “أمم” بإتمام 20 عاماً من التوثيق والأبحاث، وتعيد للمناسبة إطلاق موقع “ديوان الذاكرة اللبنانية” الإلكتروني، بنسخته المحدّثة والمطوّرة، لتصبح أكثر سهولة لتصفّح ما تعرّف عنه “أمم”، أنه “دليل اللبنانيين واللبنانيات إلى السلم والحرب”، ويضم آلاف الوثائق والشهادات.
ربما تنتهي الحرب اللبنانية فعلاً، عندما يصبح موعد خروج اللبنانيين منها هو الذكرى التي تقام لها احتفالات، تختتم معارض تذكّر بشرارتها. فالسؤال كما كتب أيمن نحلة “لم يعد: متى بدأت الحرب، بل لماذا لا يزال صمت نهايتها مستمر”.
أما المعرض في هنغار “أمم” فسيستمر لتاريخ لم يحدّده القائمون عليه بعد، وربما لحين أن يحدث ما يستدعي إغلاقه، وطيلة هذه الفترة لن يكون فقط معرضاً، بل مساحة مفتوحة للنقاش.