“80 باكو”.. في مديح بنات وسط البلد

بيد إخصائية تجميل بارعة، ناعمة الملمس، قوية العصب، تنحت صانعات مسلسل “80 باكو”، المعروض ضمن موسم رمضان الحالي، عملاً جميل المظهر، متماسك الجوهر، جريئاً وإن كان مبهجاً، حزيناً وإن كان متفائلاً.. ولولا بعض الملاحظات التي كان يمكن تفاديها في الكتابة والتنفيذ، لصار واحداً من أفضل المسلسلات التي قدمتها الدراما المصرية في السنوات الأخيرة.
محمية نسائية
يمكننا، بداية، أن نصف “80 باكو”، الذي كتبته غادة عبد العال ( صاحبة مسلسلي”عايزة أتجوز”، “إمبراطورية مين”) وأخرجته “كوثر يونس” (صاحبة فيلمي “صاحبتي” و”مقسوم”)، بأنه مسلسل “نسائي”، يمكن وضعه مع أعمال مثل “ذات”، “سجن النساء”، “عايزة أتجوز”، “سابع جار” وغيرها من الأعمال التي تكتبها وتخرجها وتلعب شخصياتها الرئيسية نساء.
وتختلف هذه الأعمال عن مسلسلات ربات البيوت وهوانم القصور وجاردن سيتي القديمة، بأنها تعبر عن أجيال جديدة من الفتيات لسن مشغولات بالتنافس فيما بينهن، بقدر انشغالهن بمساندة بعضهن البعض، ولا يحلمن بفتى الأحلام الوسيم الثري، بقدر اهتمامهن بتحقيق الذات والاستقلال عن الرجال..أحياناً ينجحن، وأحياناً يدفعن الثمن.
تدور معظم أحداث “80 باكو” داخل صالون تزيين نسائي، أو “كوافير” كما يطلق عليه، في قلب القاهرة، حول صاحبة الصالون وثلاث فتيات تعملن لديها، وعلاقتهن ببعض الشخصيات الأخرى من رجال ونساء خارج “الكوافير”.. ويركز العمل على واحدة من هؤلاء العاملات هي الأكثر موهبة، وأخلاقاً، وجمالاً، في رحلتها من قاع ظروفها السيئة إلى تحقيق طموحاتها.
أول عنصر يلفت الأنظار في “80 باكو”، ويميزه عن غيره من الأعمال المشابهة، هو الأماكن التي تدور فيها الأحداث.
واختيار المكان ليس فقط أحد العناصر الفنية المهمة في السينما والدراما، لكنه أحياناً يكون الموضوع الحقيقي للعمل، وبعض الأماكن، بطبيعتها، تحمل سمات الموضوع المشوق، الممتلئ بالدراما، في شفراتها الوراثية.
وبعضها، بحكم خصائصها، تحمل دلالات ومعانٍ درامية حتمية، فمحطة القطار هي “كون مصغر” microcosm، و”الحارة” تعبر عن الهوية الشعبية، أما “الكوافير” فهو معادل مباشر لعالم النساء.
ظهر “الكوافير” في أعمال أخرى من قبل، مثل فيلمي “سكر بنات” لنادين لبكي، 2007، و”صالون هدى” لهاني أبو أسعد، 2021، وهي أعمال تتشابه، وتختلف أيضاً، مع “80 باكو”، يجمع بينها ما يجمع نساءها من هموم ومشاغل، ويفرق بينها الفوارق بين حياة وظروف هؤلاء النساء الطبقية والاجتماعية.
“الكوافير” هو أشبه بـ”محمية” نسائية مستقلة، خاصة حين يكون العمل فيه مقصوراً على النساء. هو، بشكل ما، منطقة “محظورة” على الرجال، تتمتع فيه النساء بحضور ونفوذ كامل، مثل الحريم قديماً، أو الحمامات النسائية العامة.
“الكوافير” باسمه الأجنبي المميز، واقتصاره على النساء، وخصوصية ما يجرى فيه من عمليات تجميل وتصفيف وتنظيف، تتعرى فيه النساء بدنياً ومعنوياً، وتتكشف أسرارهن الجسدية والشخصية.
هو عالم مغلق على ذاته، ومنفتح في الوقت نفسه، خاص private وعام public في الوقت نفسه، لا تدخله سوى النساء، عادة، ولكنه محاط بالشارع والمجتمع والرجال بمجرد الخروج منه.
واختيار المكان المناسب في “80 باكو” لا يقتصر على “الكوافير”، ولكن الأهم هو المكان الذي يوجد فيه الكوافير. فقد اختارت كوثر يونس، على عكس الاتجاه السائد بالتصوير في “ديكورات” الاستوديوهات أو المجمعات السكنية الجديدة (الكومباوندات) الأكثر حيادية وبرودة من الاستوديوهات، أن تصور في “وسط البلد”، بين ميادين طلعت حرب و”باب اللوق” والتحرير والعتبة، أي في وسط وقلب القاهرة بالفعل، حيث تتقاطع المشاهد بين داخل “الكوافير” الحقيقي والبيئة الخارجية الحقيقية، من شوارع وسط البلد وعمارتها والأحياء الشعبية المجاورة التي تسكن فيها الشخصيات.
بدون أشرار
هذه العلاقة المتوترة بين الداخل “النسائي” والخارج، الذكوري غالباً، هي أحد المحاور الرئيسة في “80 باكو”.
صاحبة “الكوافير” لولا (انتصار)، سيدة وحيدة، لا زوج ولا أبناء، خبرت الحياة مبكراً، وبنت نفسها وعالمها الذي لا تعرف غيره، وهو “الكوافير”..عازفة عن الرجال، رغم إعجاب جارها الطيب، أوروبي الثقافة، البورجوازي، عاصم (محمد لطفي)، ومحاولاته المستمرة لاستمالتها.
بوسي (هبة المفتي) يتيمة الأبوين تعيش مع أختها الصغرى في بيت عمها وزوجته، اللذين استوليا على البيت تقريبا، وتحب جارها مختارالشهير بـ”تيخة” (خالد مختار)، وهو شاب طيب، لكنه حماقته الذكورية التقليدية تحول دون تحقيقه للنجاح، ومحاولاته المستمرة للصعود السريع تنتهي بالفشل والديون.. وهو الآن مديون بـ80 ألف جنيه حتى لا يطرد من الشقة التي يفترض أن يتزوج فيها بوسي.
عبير (رحمة أحمد) زوجة وأم لطفل تعاني من قسوة زوجها و”تعنيفه”، وتحاول جمع المال لكي تهرب بابنها، حتى لو دفعها ذلك إلى سرقة ولية نعمتها لولا.
فاتن (دنيا سامي) هاربة من أسرتها الصعيدية، تشعر بالوحدة والغبن والغيرة من بوسي الجميلة الموهوبة، وهي في صراع دائم بين ترك نفسها لرغباتها الشريرة، أو تغليب طاقة الحب والتضامن مع زميلاتها.
في مقابل هؤلاء النساء الأربع، هناك عالم الخارج الذي يتشكل من الرجال وبعض النساء الأخريات، وهو عالم معادٍ غالباً، ولكن ليس دائماً.
قد يكون عاصم هو النموذج المثالي للرجل كما تتخيله صانعتا المسلسل، ولكن لا يعني ذلك أن الرجال الآخرين أشرار نمطيون.
“تيخة” شاب شعبي تقليدي، تؤرقه ذكورته والرغبة في إثبات تفوقه، وصديقه باليرمو (وليد المغازي) يعتقد أنه أصبح إيطالياً لمجرد أنه سافر إلى إيطاليا وتم ترحيله قبل أن يدخلها، وكلاهما دائماً التوهم والدخول في مشاريع فاشلة، لكنهما طيبا القلب، ويتعلمان من خلال الأحداث أن يصبحا أكثر تعقلاً، أو على الأقل أكثر تواضعاً.
رجال المسلسل الآخرون إما متحرشون، أو رجعيون. وفي إحدى الحلقات يأتي أقارب فاتن من الصعيد بهدف قتلها، بعد تسرب فيديو خارج لها، وتسعى الحلقة إلى إظهار أن هذه الرجولة الخارجية المبالغ فيها تخفي ضعفاً وتفاهة سرعان ما تتكشف. ورغم أن الفكرة جيدة، وتتماشى مع المعنى العام للمسلسل، لكن يعيبها ضعف الحلقة كتابةً والأداء الكوميدي “الفارص” الذي يختلف عن بقية آسلوب المسلسل.
ثنائيات متشابكة
هذه المقابلة بين داخل الكوافير والعالم خارجه تتضاعف من خلال مقابلة ثانية بين المدينة والقرية، ممثلة في حلقة “الصعايدة” الذين يأتون المدينة للقتل، وعبر مقابلة ثالثة بين وسط البلد والأحياء الأكثر رقياً التي تنتقل إليها بوسي للعمل لدى سيدات الطبقة الوسطى.
واحدة من هؤلاء النساء تتهمها بالسرقة، وأخرى تفتعل مشاجرة معها لتتهرب من دفع أجرتها، وثالثة عروس جميلة تتزوج شاباً مدمناً طمعاً في ثراء عائلته، وبعض الشباب ينصبون لها فخا ويحاولون اغتصابها، وتظهر المفارقة في مشهد تظهر فيه “كوافيرة” أكثر أناقة تطعم حوارها بالكلمات الانجليزية، تطلب أجرتها بالدولار، وبالتحديد 750 دولاراً، ما يدعو عبير إلى الهمس لبوسي أن مهمتين اثنتين مثل هذه يمكن أن يتكفلا بحل مشكلة الـ80 ألف جنيه التي تعوق زواجها من “تيخة”.
تتنقل بوسي، والكاميرا، بين وسط البلد والأحياء الأكثر ثراءً نسبياً، لترصد التفاوت الطبقي بينهما، وما ينتج عنه من تفاوت في الطباع والأخلاق.
لكن “80 باكو” لا يقع في فخ التنميط الـ”جندري” أو الطبقي، فليس كل الرجال سواء، ولا النساء، ولا الأثرياء ولا الفقراء. هناك خير وشر في كل مكان، وأحياناً داخل الشخص الواحد، كما في حالة فاتن وعبير وتيخة وباليرمو.
درجات من الواقعية
يحمل “80 باكو” إحساساً لا تخطئه العين بالواقعية يتجسد ليس فقط في نوع القصة ورسم الشخصيات، فالكثير من المسلسلات يدعي محاكاة الواقع بتقديم قصة في حي شعبي ووضع بعض المفردات المبتذلة على لسان الشخصيات، ولكن “80 باكو” يحقق هذا الإحساس عبر عناصر أخرى منها الأماكن الخارجية والداخلية التي تدور فيها الأحداث وملابس الشخصيات التي صممتها ناهد نصر الله وقبل ذلك عبر التمثيل الطبيعي الذي يتخلى فيه الممثلون عن “أدوات الصنعة” المستهلكة التي يستخدمونها في المسلسلات الأخرى، ويستخدمون عوضاً عنها أدوات ملاحظة الواقع وإناسه الحقيقيين، العاديين.
ينطبق ذلك على الشخصيات الرئيسية كما ينطبق على الثانوية، وليس أدل على ذلك من شخصية أم تيخة التي تحمل الاسم العجيب “عساكر”، والتي تؤديها بحرفية خبيرة أنعام سالوسة، أو شخصيات أقارب بوسي، أو عميلات الكوافير.
والواقعية هنا مغلفة بإطار كوميدي خفيف، تنبع فيه الابتسامات أو الضحكات من المواقف نفسها، أو من التعليقات النابعة من طبيعة الشخصيات نفسها.
مرة أخيرة لم يكن لهذه العناصر أن تتألق لولا المكان الذي يشغل قلب الفيلم وموضوعه، وهو وسط البلد الذي يعبر ثقافياً عن شخصيات العمل: مكان عريق ولدت وعاشت فيه البورجوازية والانتلجنسيا المصرية لأكثر من قرنين، يجمع بين الشعبية- دون ابتذال- والرفاهية – دون سفه- يتحلى سكانه بالتحضر والأصالة معاً، بالتحرر دون انفلات، والمحافظة على التقاليد دون تزمت..عالم يوشك على الاختفاء الآن أمام النزوح الجماعي للمدن الجديدة، وأمام عمليات التطوير الاستثمارية من ناحية، والافقار للشرائح العليا والمتوسطة من ناحية أخرى.
يذكر “80 باكو” بفيلم محمد خان البديع “بنات وسط البلد”، 2005، الذي يدور بالمناسبة في المنطقة نفسها، بل محل الكوافير نفسه، ويتناول حكايات بنات الطبقة نفسها. هنا أيضا لا يمكن فصل البنات عن وسط البلد، أو وسط البلد عن بناته.
*ناقد فني