Adolescence.. قضية مبهرة وكاميرا أكثر إبهاراً

كثيرة هي المسلسلات الدرامية التي تمتلئ بها المنصات والفضائيات، وكثيرة هي الأعمال التي تدور حول المراهقين وسن المراهقة، ولكن Adolescence (أو فترة المراهقة) لا يشبه شيئاً من هذا كله، وكأنه قد قٌدّ من نسيج آخر غير الذي تصنع به الدراما.
تصدر المسلسل قائمة أعلى المشاهدات على منصة نتفليكس، منذ بدأ بثه الشهر الماضي، حتى وصل إلى ما يقرب من 70 مليون مشاهدة، كما تصدر محركات البحث و”تريندات” وسائل التواصل الاجتماعي، وصار حديث وسائل الإعلام في بريطانيا (بلد إنتاجه وصناعه وموضوعه) وأميركا وبلاد أخرى.
يستحق المسلسل الاستقبال الذي حظي به، بالرغم من كونه عملاً ثقيلاً على كل المستويات، يخلو من العناصر والمشهيات “الشعبية” المعتادة. صعب في صنعه وتلقيه، مقبض في موضوعه وتأثيره المشاهد، ولكنه ذلك الانقباض الفني الناتج عن المعايشة الصادقة للشخصيات وحكايتهم، والانبهار بلغة وأسلوب العمل وأداء ممثليه، والوعي بأن ثمة خطأ كبيراً في الطريقة التي يحيا بها أبناءنا وبناتنا، وأن ثمة شيئا ينبغي فعله من أجل مستقبل أقل عنفا وكراهية.
استهلال بارع
يدور Adolescence حول جريمة قتل، مثل مئات الأفلام والمسلسلات، ومع ذلك يختلف عنها جميعاً.
في المشاهد الأولى من الحلقة الأولى يتلقى ضابطان، رجل وامرأة، أثناء مناوبتهما الليلة، وقبل الفجر بقليل، تكليفا بالذهاب لاعتقال شخص متهم بقتل فتاة.
يتوجه الضابطان بصحبة قوة مسلحة من الشرطة، ويقتحمون المنزل الذي تعيش فيه أسرة صغيرة عادية جداً: زوج وزوجته وابنة في السابعة عشر وصبي في الثالثة عشر، والمشتبه فيه هو الصبي الصغير، برئ الملامح، الذي يبلل بنطاله ذعراً من اقتحام الرجال المسلحين لغرفته، ويبكي منادياً على أبيه، وينكر بإصرار أي صلة له بالجريمة!
عند هذه النقطة، ستلاحظ أن الكاميرا لا تتوقف عن متابعة الحدث، حتى عندما يذهب الضباط بالصبي إلى قسم الشرطة، فإن الكاميرا تستقل السيارة معهم، وعندما يصلوا تغادر لتتابعهم داخل القسم.
نتابع إجراءات الاعتقال والتحقيق بالتفصيل، الولد مٌصر على الإنكار، حتى عندما يسأله أبوه على انفراد عما إذا كان قد ارتكب الجريمة.
يأتي المحامي ليحضر التحقيق بصحبة الصبي ووالده، يحتفظ المحققان بالدليل الدامغ إلى النهاية: تسجيل لكاميرا مراقبة المنتزه تصور صبياً، وهو يهاجم الفتاة بسكين موجها إليها عدداً من الطعنات حتى تسقط ميتة!
سر اللقطة الواحدة
حتى هذه اللحظة، وبعد نهاية الحلقة، ليس هناك تأكيد على أن الصبي المتهم هو الجاني، الكاميرا تنقل لنا ما تلتقطه فقط خلال الزمن الحقيقي للحدث، الذي هو زمن الحلقة.
ربما لحظتها، قد تتذكر أن المسلسل من إخراج فيليب بارانتيني صاحب فيلم Boiling Point (نقطة الغليان)،2021، الذي كان يتكون أيضاً من لقطة واحدة لمدة ساعة ونصف الساعة تدور داخل مطبخ أحد المطاعم.
وقد تتذكر أيضاً أن الممثل ستيفن جراهام الذي يلعب دور والد الصبي في المسلسل كان أيضاً بطل Boiling Point، جراهام شارك أيضاً في كتابة سيناريو Adolescence مع جاك ثورن، كمسلسل يتكون من 4 حلقات فقط، كل حلقة عبارة عن لقطة واحدة طويلة!
هذه التقنية تلفت انتباه المشاهد بالطبع، خاصة أن صناع المسلسل يذهبون بها إلى مستويات غير مسبوقة من الإتقان والإبهار (لا في الدراما التليفزيونية ولا السينما).
تقنيات اللقطة الواحدة سلاح ذو حدين، قد يصيب صاحبه إذا استخدمت فيما لا داع فني له، أو إذا لم يحسن استخدامها، القاعدة الأساسية في أي فن هي أن الشكل يجب أن يكون التعبير الأمثل عن المضمون، وأن يتم التعبير عن المضمون بالشكل الأمثل له.
وإذا شعر المتلقي للحظة أن الفنان يتلاعب بالشكل دون داع، فسوف يفقد اهتمامه بالشخصيات والموضوع، أما إذا شعر بأن الشكل أضعف من الموضوع، فسوف يؤثر ذلك على تقديره وتقييمه لصانع العمل.
في Adolescence، كما في Boiling Point بشكل مختلف، فإن تقنية اللقطة الواحدة مرتبطة عضوياً بمضمون ومعنى العمل.
في Boiling Point تنقل اللقطة الواحدة حالة الحركة المحمومة داخل المطبخ والمطعم بين عشرات الطباخين والخدم، حيث السرعة والتوتر والقلق، وحيث يمكن لأي خطأ أن يؤدي إلى كارثة، كما تنقل توتر العلاقات بين الشخصيات المحاصرة والمضغوطة داخل مكان واحد يسخن فيه كل شيء لدرجة الغليان.
أما في Adolescence، فتشيع اللقطة الواحدة إحساساً بالواقعية الوثائقية، خاصة مع الإتقان المذهل للممثلين ولحركتهم (الميزانسين) شديد الطبيعية.
مونتاج، أم لا مونتاج؟
منذ ستين عاماً تقريباً، اعترض الناقد والمنظر السينمائي الفرنسي أندريه بازان على كثرة اعتماد صناع السينما على عنصر المونتاج، ورأى أن المونتاج يتعارض مع “الواقعية” ويخلق إحساساً بالاصطناع ووجود خدعة ما يمارسها صانع الفيلم على الجمهور.
رأي بازان جاء في وقت كان ينظر فيه للمونتاج باعتباره العنصر الأبرز والأكثر خصوصية في السينما، والذي يميزها عن المسرح.
هذا النقاش يتجاهل شيئين مهمين: أن الكاميرا لها إطار محدد وتركيز للبؤرة والاهتمام لا يوجد في المسرح، حيث تتنقل أعين المشاهد كما يريد، والثاني هو أن الكاميرا تتحرك، ما يعني أن أماكن وأحجام وزوايا اللقطات تتغير، وهذا أيضا لا يوجد في المسرح.
اللقطة الواحدة في Adolescence هي سينمائية تماماً، وتؤدي كل مهام المونتاج السينمائي، لكن دون قطع، بها التأطير المحكم والانتقال الدقيق بين الأماكن والزوايا والأحجام، وفوق ذلك تحقق هذا الشعور المطلوب بالواقعية الوثائقية مع تحقيق شعور آخر لا يغادر المشاهد بالحصار داخل الموضوع ومرمى الكاميرا لا يمكن الخروج أو الفكاك منه.
ثقافة قاتلة
تدور الحلقة الثانية من المسلسل بعد مرور 3 أيام على الحادث داخل المدرسة التي يدرس بها الجاني والضحية، وتضم عشرات الشخصيات من طلبة ومدرسين، بالإضافة إلى محققي الشرطة، وتنتقل الكاميرا خارج المدرسة في لقطة عجيبة لترتفع في السماء راصدة السيارة وصولاً إلى موقع الحادث.
أما الحلقة الثالثة، فتدور بعد أسابيع وهي عبارة عن لقاء بين الولد والطبيبة النفسية للمحكمة، هنا يأتي الإبهار لا من حركة الكاميرا أو دقة تنظيم الممثلين والمجاميع، ولكن من أداء الممثلين: الصبي بأداء أوين كوبر، الذي يمثل لأول مرة في حياته، والطبيبة بأداء إرين دوهرتي (التي لعبت شخصية الملكة آن الشابة في مسلسل The Crown منذ عامين)، ساعة كاملة دون قطع واحد لحوار طويل ومتشعب وحالات شعورية متباينة ولحظات انفجار وردود فعل مذهلة، بالغة التأثير ولا يمكن نسيانها.
من خلال الحلقتين الثانية والثالثة يتبين بالتدريج أسباب وظروف الجريمة: الثقافة الذكورية المرضية التي تصيب الكثير من تجمعات المراهقين والشباب الرجال، والتي يؤججها مواقع وشخصيات على الإنترنت، تنشر التعصب وكراهية النساء، وتشيع النرجسية وأوهام العظمة، ومن ناحية ثانية يؤججها الشعور بالنقص والضعف تجاه النساء.
تذكر شخصيات المسلسل مصطلحات مثل Manosphere التي تشير لهذه التجمعات الذكورية التحريضية، وIncel التي تتكون من كلمتين، وتعني “العفة اللاإرادية”، أي اضطرار عدد كبير من الرجال إلى عدم الدخول في علاقات مع النساء خوفاً أو خجلاً أو لأنهم غير جذابين بالدرجة الكافية.
وتذكر إحدى الشخصيات إحصائية تقول أن 80% من النساء ينجذبن إلى 20% فقط من الرجال، ما يعني أن معظم الرجال يعانون من عدم اهتمام النساء بهم، ما يعني بدوره حقد هؤلاء الرجال على النساء، وعلى الرجال الجذابين أيضاً!
الهوة الواسعة
تدور الحلقة الرابعة والأخيرة بعد مرور شهور طويلة على الحادث، وأثره على أسرة الصبي الذين يعانون من الحزن والندم، وتنمر ومضايقات الصبية والجيران، وهي تجمع بين تقنيات اللقطة الواحدة المعقدة والأداء التمثيلي البارع، وتنتهي بمشهد آخر لا ينسى.
في هذه الحلقة تتضح الهوة الواسعة بين الجيل الصغير، GZ، كما يطلق عليه، وما سبقه من أجيال، بسبب الإنترنت ومواقع التواصل، التي تحولت فعلياً إلى مواقع فقدان التواصل!
لعل ذلك ما دفع رئيس الوزراء البريطاني إلى التوصية بنشر المسلسل في المدارس على أمل أن يساهم في التوعية بهذه الخلفيات التي تمثل قنابل موقوتة للعنف، وبينما رحب كثيرون بالمبادرة، اعترض بعض المتخصصين الذين حذروا من ظاهرة يطلق عليها “التطبيع السلبي” التي تحدث أحياناً، حيث يؤدي التحذير من أشياء مثل العنف أو العنصرية أو التنمر، إلى عكس المرجو منه.. مبينين أن المسلسل يمكن أن يكون عن المراهقين، ولكن ليس بالضرورة للمراهقين!
* ناقد فني