إن الأخلاق الحميدة هي أعظم ما تملكه الأمم، وتمتاز عن غيرها، وتلك الأخلاق تعكس ثقافة الأمة وتميزها عن غيرها من الأمم، وبقدر ما تسمو أخلاقنا نعلوا بحضارتنا، وهذا بطبيعة الحال الهدف الرئيس لأعداء أمتنا الإسلامية خاصة من تخلينا عن أخلاقياتنا التي أرساها ديننا الحنيف، وبقدر تخلينا عن تلك الأخلاق الحميدة نفقد قيمنا وكرامتنا، وتتقهقر حضارتنا كالسفينة بين الأمواج العاتية تدفعها الأمواج في كل اتجاه، وكم علت أمة ولو كانت كافرة بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة، وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق.
تعريف الأخلاق:
نقصد بالأخلاق: القِيمَ أو المُثُل المحترَمة والمستقرة في الفِطر السليمة، التي فطر الله عليها الإنسان وكرَّمه بها، وقرَّرتها الشرائع السماوية، وهي التحلِّي بكلِّ الفضائل، وتجنُّب كلِّ الرذائل، وتنقسم قسمين:
الأخلاق الحَسَنة: وهي التي تجمع في محتواها شتَّى صنوف الفضائل من كريمِ الصِّفات وطيِّب الأفعال.
والأخلاق السيِّئة: وهي عكس الحَسَنة، وتجمع في محتواها شتَّى صنوف الرذائِل وقبيح الأفْعال.
ومِن أمثلة الأخلاق الحَسَنة: العدْل والصِّدق والكرم، والعفة والحياء، والتواضع والشجاعة، والإيثار والحِلم، والضمير والوفاء بالعهود والعقود.
في هذا المقال نوضح بعض مظاهر أزمة الأخلاق في حاضرنا المعاش راجين من الله القدير أن يحفظ علينا ديننا ومكارم أخلاقنا.
أخلاقنا في الطريق: في الزحام تتلاشى المشاعر باحترام الخصوصية للغير، والأدب خصوصية المسكن، بل حتى خصوصية الإنسان نفسه حيث يتم التغاضي عن هذه الانتهاكات واعتبارها ضرورة وعدم مبالاة لمشاعر الناس.
وأزمة الزحام في الطرقات يختفي معها خلق الإيثار، فترى أن مرتادي الطرق من سائقي المركبات يتصارعون في إعاقة بعضهم بعضاً عن السير، وينسون وجهتهم التي خرجوا من أجلها، ويتحول الطريق إلى مضمار للسباق بحيث يصير أكبر همّ أحدهم ألا يُسبق، وإن أدى به الأمر إلى تعريض حياته وحياة من حوله إلى الخطر استجابة لحب الانتصار والأنانية، وهذا دخول السيارة بطريقة مستفزة حيث يتعمد الدخول القسري من أمامك ليتجنب الوقوف في الطابور وهذا يتجاوز الخطوط الصفراء على يمين الطريق، وهذا يسير بسيارته على يسار الطريق أقل من سرعة الشارع.
التسابق في الطرقات معرضين حياة الناس للخطر بحجة التحدي والشباب، ارتفاع أصوات المسجلات في المركبات داخل الأحياء، وفي أوقات مختلفة، تركيب أصوات مزعجة في السيارة مسببة صخب وإزعاج للناس وغيرها كثير.
الكاذب والمحتال: يقول لله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ التوبة: 119.
ويقولُ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم : ((آيَةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَف، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ))؛ رواه البخاري ومسلم.
فمن الناس من يجد لنفسه المبررات الكافية لتغيير الحقائق وطمسها ولعل أبرزها بحجة وقوعه تحت ضغط الظروف الصعبة هي من دفعه للتدليس كالكذب في المعاملات المالية والتجارية، التاجر الكذاب والمحامي الكذاب والقاضي الكذاب والموظف الكذاب والمقاول الكذاب…إلخ.
2 النكث بالعهود: تجد من يتفق من الناس بعمل معين كتقديم مساعدة أو الحضور لمكان معين لأداء عمل معين، فتجده يتخلف عن ذلك الموعد بكل سهولة بحجة انشغاله أو نسيانه حتى وصل الحال به إلى أنه قال:( أن أبيه في العناية المركزة) والحمد لله أبيه بصحة وعافية.
3 فقدان المشاعر أو احتضارها: فطالما بقي منا معافى في بدنه سليم في عقله لديه ما يكفيه لسد حوائجه خلاف ما يعانيه إخوان لنا في الدين أو الإنسانية، بل ربما فقد حياته وحياة من معه متبلد المشاعر لا يهمه إلا نفسه فقط.
4 الاستخدام السيئ لوسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية: فترة الأزمات والمحن من أكثر الأوقات رواجاً للإشاعات، وذلك لما يصيب القلوب من خوف وما يصيب العقول من شلل عن التفكير مع انتشار الخوف وانعدام الأمن، وربما في أغلب الأحيان صعوبة التحقق من صدق المعلومة المرسلة من أحدنا لا يلقي لها بالاً.
وإن مما أصاب الأمة في صميم أخلاقها انتشار القنوات الفضائية، وغزوها بيوت المسلمين، واستخدام هذه القنوات من قبل بعض الناس استخداماً مُخلاً بالإيمان، مخلاً بالشرف والمروءة والأخلاق، وليته اقتصر في ذلك على نفسه، بل جعل أولاده صغيرهم وكبيرهم في غياهب الظلمة، وأفسد عليهم أخلاقهم ودينهم بترك الحبل على القارب تعاوناً وتهاوناً منه مع أعداء الإسلام في إفساد الأمة من حيث يشعر أو لا يشعر، فصارت الأسرة بهذا الشكل تشاهد ما هب ودب في هذه القنوات، إذ لم تشعر أن عليها رقيباً فأثيرت الشهوات، وفسدت المروءات، وانتشر التبرج والسفور، والتشبه بالكفار والكافرات، وبدأنا نرى صوراً غريبة في بعض بقاع العالم الإسلامي لمن هن من المسلمات، متبرجات كاسيات عاريات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن مثل هؤلاء: “العنوهن فإنهن ملعونات”.
وكثير من هذه القنوات جعلت من نفسها أبواقا للفتنة وإشاعة الفوضى والاضطراب في المجتمعات من خلال نشر الأكاذيب واستضافة التافهين ليتكلموا في الأمور الكبار التي تهم الأمة، وتؤثر في حاضرها ومستقبلها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”. رواه أحمد.
وفي تَقديري أنَّ هذا من أكبر الأزمات والنكبات التي ابتُليت بها الأمَّة، وباب شر فُتح عليها، دخلتْ عليها منه سائرُ الشرور؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الرعد11.
إذا ما السبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكارم أخلاقنا التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم لا يكفي أن تتضمن المناهج الدراسية مادة تختص بتعليم الأخلاق، أو تشتمل مدونات السلوك للمهن المختلفة على مبادئ أخلاقية إلزامية، أو تتضمن خطب الجمعة الحديث عن الأخلاق فكم من علوم شرعية تدرس دون أن يبين المعلم الأثر الواجب لها على الفكر والسلوك، بل كم من معلم يفتقد لأبسط المبادئ الأخلاقية، وكم من مواثيق للشرف يضرب بها عرض الحائط، وكم من الخطب ألقيت بروح باردة وشعور من جمهور المستمعين أن ذلك الكلام يصلح في الزمن الغابر أما العصر الذي نعيش فيه فله أخلاقه وضروراته الملجئة.
إذا لابد أن يستشعر الإنسان أهمية الأخلاق لدينه ودنياه، وأن يتمثل الدعاة إلى الأخلاق الحسنة ما يدعون إليه، فيرى الناس فيهم من يلتزم الصدق في كلامه ومشاعره، ويرى الناس الأمين الذي يصون ما تحت يده مهما غلا ثمنه، وضعفت الرقابة عليه، ويرون من يعتبر الأخلاق جزءاً من هويته وسبباً من أسباب البقاء والسعادة في الدارين.
وفي نهاية هذا المقالة لابد من توضيح أمر في غاية الأهمية وهو أن هذه الأمة كالغيث لا ينقطع خيرها، ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الأمة جمعاء بفقدها الخلق الحسن أو الفساد أو نحو ذلك من الأحكام الجائرة التي تشعر باليأس والإحباط والقنوط، وليس هذا سبيل المؤمن المتبصر في دينه مصداقاً لحديث نبينا صلى الله عليه وسلم: “إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم”. رواه مسلم.
وإنما المؤمن الحق ينبه على الأخطاء، ويساهم في علاجها، ويُحسن الظن بربه، ولا يقطع الرجاء به، ويتفاءل في نظراته، إنما القصد هو لفت الانتباه إلى كل مسؤولٍ فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته إلى هذه المظاهر السيئة لنتجنبها ومعالجتها.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يتولانا والمسلمين برحمته، ويجعلنا هداة مهتدين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
* متخصص في القانون الدولي العام والعلوم السياسية