أ.د. جهان العمران

في عالم يموج بالتحديات والمشكلات يصبح التوقف قليلاً والإنصات إلى اللحظة الراهنة أمراً ملحاً. وفي هذا الموضوع كتب جون كابات زين كتاباً بعنوان: «Wherever You Go, There You Are» أي أينما تذهب فأنت هناك. والمقصود بذلك أنه لا جدوى من محاولة الهروب الخارجي من مشكلاتك، إذا كان القلق يسكن داخلك فالتغيير الحقيقي يبدأ من وعيك أنت، لامن تغيير المكان أو العمل، أو السكن، أو السفر إلى الخارج، لأنك أينما ذهبت سوف تأخذ هذا القلق معك، فالمطلوب هو الرحلة إلى الداخل، أي أن تعود إلى نفسك، وتتعلم فن الوعي الحاضر، أي اليقظة الذهنية Mindfulness، حيث تتحول كل لحظة إلى فرصة للانتباه، والامتلاء بالمعنى. إنه تذكير عميق بأن جودة حياتنا لا تتحدد بالمكان الذي نذهب إليه، بل بالوجود الواعي في اللحظة الراهنة.

إن اليقظة الذهنية ليست طقساً معقداً أو ممارسة محصورة في جلسات طويلة، بل هي ببساطة الحضور بكامل الانتباه فيما نقوم به: حين نمشي، أو نتحدث، أو نتناول طعامنا، أو حتى عندما نتنفس. كثيرون يعيشون كما لو أنهم ركّاب في قطار يحدّقون في هواتفهم طوال الطريق، فلا يلتفتون إلى المناظر الجميلة المتغيرة حولهم. وآخرون يقرؤون الكتب أو المجلات بسرعة، يقلبون الصفحات واحدة تلو الأخرى دون توقف عند المعنى، وكذلك آخرون يلتهمون الطعام بسرعة، وهم يفكرون بمشكلاتهم دون الاستمتاع بمذاقه وألوانه ورائحته. إن الوعي الحاضر يعيد إلينا النظر والتمهّل، ويجعلنا نلمس قيمة اللحظة بدل أن نفلتها من بين أيدينا.

التأمل لا يعني الصمت الخارجي فحسب، بل يهدف بالدرجة الأولى إلى بلوغ السلام الداخلي، والقدرة على مواجهة الحياة كما هي لا كما نرغب في أن تكون.

هذه الممارسة لا تغيّر الأحداث المحيطة، لكنها تغيّر ردود أفعالنا تجاهها، وتمنحنا مرونة أكبر في مواجهة القلق والحزن والتقلبات.

في مجال العمل مثلاً، قد تفرض الإدارة قرارات جديدة صارمة لا نستطيع تغييرها، لكننا نستطيع أن نطور أنفسنا، ونوسع خبراتنا لنحوّل التغيير إلى فرصة للنمو. وفي العلاقات، قد نواجه أشخاصاً لا يمكننا تبديل طباعهم، لكننا نستطيع تعديل أسلوبنا في التعامل معهم، ووضع حدود نفسية صحية تحمينا منهم. أما في مواجهة المرض، فنحن أمام موجة من نوع خاص، لا يمكن دفعها ولا إنكارها. هنا لا يكون الحل في الغضب أو المقاومة، بل في التكيف الواعي مع ما يفرضه الجسد، وذلك بتغيير أنماط حياتنا اليومية مثل اعتماد غذاء صحي، وممارسة نشاط بدني خفيف، وتنظيم ساعات النوم. وعلى المستوى النفسي، القبول بما هو قائم، وإعادة وضع أولوياتنا في الحياة لتصبح أعمق معنى وأكثر رضا.

حتى في تفاصيل الحياة اليومية، الوعي الحاضر يدعونا إلى تحمّل مسؤولية تجربتنا الداخلية، والتوقف عن تعليق سعادتنا على الظروف الخارجية. فكل ما نملكه حقاً هو أن نعيش في اللحظة الراهنة، أي هنا والآن، حتى نستطيع أن نجد السلام الداخلي إذا كنا مستعدين للتغيير الإيجابي في أسلوب تعاملنا مع الأشخاص والأحداث حولنا.

إن الحياة لا يمكن أن نعيشها بمحاولة مواجهة الأمواج، بل بإتقان فن ركوبها بوعي وطمأنينة حتى لانغرق، بل كي نصل إلى بر الأمان والاطمئنان.

* أستاذة جامعية في علم النفس

شاركها.