اخبار البحرين

اختبار الصبر يبدأ الآن! – الوطن

حنان الخلفان


بمجرد أن يُعلن دخول رمضان، تنبض الحياة بإيقاع مختلف، وكأن الزمن يأخذ منحىً آخر، أكثر هدوءاً وامتلاءً بالسكينة. يتأهب الجميع لاستقبال هذا الضيف العزيز، حيث تكتسي الأجواء بروحانية خاصة، تمتزج فيها نسمات الإيمان بمشاعر الفرح والتأمل. تتزين البيوت بأضواء خافتة تضيء لياليه، وتنتشر في الأجواء تهاني الأحبة، فيما تتسابق القلوب نحو بداية جديدة، تنشد فيها الصفاء، وتبحث عن فرصة للعودة إلى الذات.

يعلو صوت المدفع الرمضاني في الأفق، معلناً بدء أيام مليئة بالروحانية، حيث يتهيأ الصائمون لرحلة يتجدّد فيها العزم، ويتجرد فيها القلب من أعبائه، متشبثاً بفرصة نادرة لمحو الخطايا. إنه أكثر من مجرد إعلان للصيام، بل هو تحول داخلي عميق، حيث يراجع الإنسان ذاته، ويتطلع إلى أيام تتسع فيها أبواب الخير، وتصفو فيها النفوس.

تمتلئ البيوت بأجواء خاصة، حيث تتداخل أصوات التهاني بأصداء القرآن، ويتسابق الجميع لإعداد موائد السحور والفطور بعناية وكأنها طقس مقدّس يتوارثه الأبناء عن آبائهم. يلهو الصغار في الأرجاء، مستمتعين بحكايات الجدات عن رمضانات الماضي، بينما يتأمل الكبار كيف يأتي هذا الشهر ليعيد ترتيب العلاقات، ويحيي في النفوس معاني التسامح والرحمة.

رمضان هو شهر القرآن، حيث تتسابق الألسنة في تلاوته، وتجد القلوب فيه سكينة لا تُضاهى. إنه الوقت الذي يُنفض فيه الغبار عن المصاحف، حيث يأنس الصائم بآيات الله، ويشعر بأنه في حضرة نور يهديه وسط زحام الحياة. ومع مغيب الشمس، تكتسي المساجد بنور صلاة التراويح، ويجتمع المصلون في صفوف تتآلف فيها الأرواح، وتسمو فيها النفوس وكأنها تذوب في لحظة من الخشوع العميق.

هذا الشهر ليس فقط موسماً للعبادة، بل هو مدرسة للتأمل والتهذيب النفسي. يعلّم الإنسان كيف يتسامح مع ذاته قبل أن يغفر للآخرين، كيف يتحرر من أعباء الماضي ويبدأ من جديد. هو فرصة لإعادة وصل ما انقطع، لمد جسور الود، ولتصحيح الأخطاء التي تكدست مع مرور الأيام. إنه وقت يذكرنا بأهمية العلاقات، وبأن لحظات الصفاء أثمن من أي جدل لا طائل منه.

وبينما تتقدم الأيام، يعيد رمضان للمجتمعات قيماً كادت أن تندثر، حيث تعود العلاقات بين الجيران أكثر دفئاً، ويتجدّد تقليد تبادل الأطباق الرمضانية، وتنبعث روح العطاء من جديد. في لحظات الغروب، تتعالى أصوات الدعاء، وتمتد الأيادي لتقديم الطعام للصائمين، فتترسخ قيم التراحم والتكافل، وتصبح موائد الإفطار رمزاً للكرم والتآخي.

وقبيل أذان المغرب، يتأمل الجميع في لحظات الصمت، فيما تتسارع نبضاتهم انتظاراً لأول رشفة ماء بعد ساعات طويلة من الصيام. على مائدة الإفطار، يلتقي أفراد العائلة، تتلاقى نظراتهم المليئة بالامتنان، وتتجلى في تلك اللحظة أسمى معاني الرضا، حيث يذوق الصائم طعم الصبر، ويدرك أن رمضان ليس مجرد أيام تمر، بل تجربة روحية تُعيد ترتيب الداخل، وتصقل الروح، وتهيّئ القلب لحياة أكثر إشراقاً.

وبصراحة.. رمضان ليس مجرد شهر في التقويم، بل هو حالة وجدانية تغمر الوجود، إحساس لا يُكتب بل يُعاش، ونفحات لا تُحكى بل تُحسّ. هو وعد بأن النقاء ممكن، وأن الصفح أقرب مما نتصور، وأن الخير باقٍ ما دامت هناك قلوب تستقبله بالحب، وأيادٍ تمتد لصنع المعروف، وأرواح تتطلّع إلى نور الهداية. هو زمن العودة إلى الذات، والاقتراب أكثر من الله، وإعادة اكتشاف قيمة العطاء في أسمى صوره. فليكن هذا الشهر بدايةً لا تنتهي بانتهائه، بل تستمر آثاره في نفوسنا طوال العام.

مبارك عليكم الشهر الكريم، وتقبل الله منكم الصيام والقيام، وجعل أيامكم عامرة بالنور والمغفرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *