مع ظهور ChatGPT وتزايد اعتماده في المكاتب والفصول، صار السؤال أبعد من «كيف نستخدمه؟» إلى «ماذا يفعل بنا؟». فما نراه شاشة مطيعة يوازيه خلف الستار محرّك يقرّر نيابة عنّا المسار الأسرع أو الأعمق للحلّ. التطوّرات الأخيرة مثل (5GPT) لا تكتفي بتحسين جودة المخرجات؛ بل تعيد ترتيب الخطوات الذهنيّة نفسها. كانت الأدوات قديماً امتداداً لليد واللسان، أمّا اليوم فهي امتداد للعقل، تتدخّل في لحظات التشخيص والتأطير واتّخاذ القرار. وهنا يبدأ السؤال الأصعب: هل تمنحنا هذه الأدوات حرّيّة أكبر في التفكير أم تسلبنا القدرة على ممارسة هذه الحرّيّة؟
في البدايات كان على المستخدم أن يتريّث قليلاً: يُقدّر صعوبة السؤال، ينتقي المدخل، يختبر أكثر من زاوية. تلك اللحظات الصغيرة كانت بمثابة صالة تدريب ذهني يومية. أما اليوم، ومع سلاسة الأنظمة الجديدة وتوجيهها الخفي بين الاستجابات السريعة وأنماط التفكير العميق؛ تُختزل التجربة إلى طلب ونتيجة، ويغيب التدريب على مراقبة التفكير والتحكم فيه. تتسارع المخرجات نعم، لكن العضلات العقلية التي تُبنى بالتصنيف والافتراض والتحقق؛ تفقد تمرينها اليومي كما تفقد اليد المهارة إن توقفت عن الكتابة.
الخطر الأعمق هو المسافة الخفية التي تبتلعها الخوارزميات بين الفكرة وبرهانها. نقرأ خلاصة محكمة، ولا نرى الورشة العقلية التي شُيّدت داخلها: أين فُكِّكت الفرضيات؟ كيف رُتِّبت الأولويات؟ لماذا أُهملت طرق بديلة؟ ومع الوقت، يتكون لدينا «وهم الكفاءة»: إحساس بالتمكّن لأن النص متقن، بينما تتآكل «الخرائط الذهنية» التي لا تُكتسب إلا بالكدّ والمجاهدة. وحتى الخبير المعجون خبرةً يتحوّل إن طال اعتماده إلى مدقق جودة أكثر منه صانع معنى، يراجع ما يصوغه غيره بدل أن يبنيه من أسسه الأولى.
القضية ليست «مع أو ضد»؛ بل كيف يمكن أن نُبقي لأنفسنا نصيباً من الطريق في ظل هذه المحاكاة الرهيبة. يبدأ ذلك بصيانة معرفية واعية تُعيد إلينا زمام المبادرة؛ بأن نكتب تصورنا قبل السؤال: تعريف المشكلة، الافتراضات، خطةً أولية؛ وبعد الاستفادة، نراجع أي خطواتٍ قفزنا فوقها؟ ثم نحفظ لنا كبشر مساحاتٍ لا تُفوّض: وزن القيم حين تتزاحم، الحسّ الأخلاقي في المواقف الرمادية، والقدرة على مساءلة المسلّمات قبل الركون إليها، المهم ألا نعتمد مخرجاً لا نستطيع شرحه والدفاع عنه.
عملياً؛ يمكن اعتماد ثلاث مقاربات بسيطة وعميقة الأثر. الأولى: «يوم بلا وسطاء»؛ ننجز فيه مهمة أصيلة من الألف إلى الياء بجهدنا الخاص، لا لنتباهى بالزهد؛ بل لنذكّر الذاكرة طريقها، وندرّب الحدس على الإصغاء، ونختبر صبرنا على البناء من الصفر. الثانية: «الآلة ناقد لا مؤلف»؛ نقدّم لها مسوّدة من عندنا، فتقسو عليها بالملاحظات، وتقدّم بدائل وزوايا، لكننا نحفظ لأنفسنا حقّ الصياغة الأخيرة ومسؤولية المنطق. الثالثة: «فحص دوري للياقة المعرفية»؛ من خلال اختبار المهارات التي نفوّضها كثيراً، فإن وجدنا وهناً خططنا لعلاجٍ تدريجي يعيد القوة إلى مواضعها. بهذه الخطوات الصغيرة نربّي ملكة السؤال قبل الإجابة، ونجعل من التكنولوجيا شريكاً في الارتقاء لا قناعًا نخفي خلفه عجزنا أو تسرّعنا.
التطورات الجديدة مدهشة، وChatGPT وأخواتها مثالٌ حيّ على قدرة الآلة على توسيع الأفق وتسريع الإنجاز؛ لكن هذه الأدوات تصبح أفضل ما تكون حين تبقى عدسة تكبير لا قفلاً على العقل. إن لم نملأ نحن الفاصل الصغير بين الطلب والنتيجة بوعيٍ وإدراك ومسؤولية؛ فلن يبقى فرقٌ بين امتلاك أداة قوية وامتلاك أداة لنا. الاختيار ما زال ممكناً، غير أن النافذة تضيق؛ فلنحافظ على أن نبقى أصحاب القرار الأول، وأن نمنح هذه الأدوات شرف الخدمة لا عرش القيادة، فنربح سرعة الأداء اليوم، ونحفظ كرامة الخبرة لغدٍ أبعد.