أمل محمد أمين

يروي أحد المعالجين النفسيين عن تجربته مع “الأم المحترقة” وكيف أنه على مدار السنوات العشر الماضية، التقى في العيادة آلاف الأمهات اللواتي يعبّرن عن معاناتهن اليومية مع التربية.

ويقول “في البداية، ظننت أن ما أسمعه هو مجرد حالات فردية؛ أم مرهقة، أو أم عصبية، أو أخرى تشعر بالضياع. لكن مع مرور الوقت، ظهر أمامي “نمط متكرر” يؤكد أن الأمر يتجاوز حدود الحالات الفردية، ويعكس تحوّلًا أعمق في طبيعة الأمومة المعاصرة.

وفي مشهد يتكرر كل يوم تأتي أم تحمل طفلاً في الثانية من عمره، يصرخ على الأرض بلا توقف. تبدو مرهقة حد الانهيار، وتقول بصوت مكسور:

“يا دكتور… لم أعد قادرة، لا أعرف كيف أتعامل معه، ولا أحتمل هذا الضغط”.

وبالحوار معها، يتضح أنها لم تنم جيدًا منذ أيام، تعمل بدوام طويل، وتقوم بالمهام وحدها دون أي دعم من أسرة أو مجتمع. عندها يبرز السؤال:

هل المشكلة في صبر الأم؟ أم في “ثقل المسؤوليات غير الإنسانية” التي تُلقى على كتفيها؟

الواقع يشير إلى أن صبر الأم لم يقل؛ لأنها “أسوأ” أو “أقل تحمّلًا”، بل لأن الحمل الذي تحمله أكبر من قدرة جيلين سابقين مجتمعين.

وإذا أجرينا مقارنة بين الماضي والحاضر فهي بالتأكيد ستكون مضللة

وكثيرًا ما تتردد مقولة: “أمهات الماضي كنّ أكثر صبراً وتفانياً، فما الذي حدث لأمهات اليوم؟”

لكن تحليل الواقع يكشف اختلاف الظروف جذريًا. في الماضي كانت الأم تعيش وسط أسرتها الكبيرة: جدة، خالة، جارة…

* الطفل كان يُربّى داخل “مجتمع صغير”، لا على يد أم واحدة.

* إيقاع الحياة كان أبطأ، والضغوط أقل، والتوقعات محدودة.

* المقارنات كانت بسيطة ومحدودة في نطاق البيئة القريبة.

أما الأمومة اليوم فإن الأم مطالبة بأن تكون كل شيء في آنٍ واحد:

أم + زوجة + موظفة + شيف + دارسة تربية + مهتمة بمظهرها.

وهذا يعرضها لضغوط اقتصادية ونفسية واجتماعية متزايدة. في عالم سريع لا يتيح مساحة للراحة أو الاسترخاء ومقارنة مستمرة عبر وسائل التواصل التي تفرض صورة مثالية للأمومة. وهنا يظهر التناقض:

الوعي التربوي لدى الأمهات اليوم أكبر بكثير، لكن تطبيقه أصعب.

ماذا تقول الأبحاث؟

المشاهد اليومية في العيادات ليست مجرد ظواهر عابرة، بل وصفته الدراسات العلمية بوضوح عبر عدة مفاهيم:

1. احتراق الأهل (Parental Burnout) وهي حالة نفسية تصيب الأمهات خصوصًا، وتتجلى في:

* فقدان الصبر.

* رغبة في الهروب.

* شعور شديد بالذنب.

* انسحاب عاطفي من الطفل رغم محبته.

وقد أثبتت الأبحاث أن الجيل الحالي من الأمهات هو الأكثر تعرضًا للإجهاد النفسي في التاريخ الحديث.

2. فخ الأمومة المكثفة (Intensive Motherhood Trap) وهو نمط اجتماعي يطالب الأم بتربية مثالية، دون توفير أي دعم أو مساندة.

مجتمع يقول: “لا تصرخي”، “كوني هادئة”، “كوني مثالية”.

وفي نفس الوقت، لا يوفر لأم مرهقة أي مساعدة حقيقية.

3. التكنولوجيا وسرقة الانتباه

قلّت فرص اللعب الحر بين الأم وطفلها بشكل كبير.

ليس لأن الأم لا تريد أن تلعب، بل لأن هاتفها سرق انتباهها قبل أن يسرق وقتها.

وعلى هذا الأساس فإن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن الأمهات اليوم لسن ضعيفات ولا قليلات صبر، ولا “جيلاً مدللاً” كما يقال.

الواقع أن الأم انتقلت من بيئة ترتكز على التربية الجماعية إلى بيئة تعتمد على التربية الفردية المعزولة..

فالطاقة التي كانت تُوزّع على خمس نساء في الماضي، مطلوب الآن أن تقدمها امرأة واحدة فقط. طبيعي إذن أن يقلّ الصبر، لا لأن الأم تغيّرت، بل لأن المعادلة أصبحت غير إنسانية وصعبة على الأم..

والسؤال ما الذي يمكن فعله؟

لا يحتاج الأمر إلى جلد الذات، بل إلى حلول واقعية، مثل:

استعادة الدعم من الأسرة أو الأصدقاء أو مجموعات المساندة.

وخفض معايير المثالية والاكتفاء بـ”تربية كافية” لا مثالية.

وكذلك زيادة اللعب والمشاركة بدلًا من الإفراط في الكورسات المعلوماتية.

إن تعليم الأم أن الصبر مهارة تُكتسب بالتدريب، وليس صفة فطرية ثابتة.

ورسالتي إلى كل أم تقرأ هذه السطور قد تشعرين بأنك عاجزة أو أقل من الأمهات السابقات، لكن الحقيقة أنكِ تربين أبناءك في زمن أصعب بكثير

ومع ذلك، ما زلتِ ثابتة، مجتهدة، ومستمرة في العطاء.

هذا ليس ضعفًا… بل إنجازاً..

ليس المطلوب أن تكوني نسخة من أم خمسينيات القرن الماضي، بل أن تكوني أماً حقيقية تحب نفسها وعائلتها، تتطور، تخطئ، ثم تنهض من جديد.

شاركها.