مع اكتمال استعدادات مملكة البحرين لاحتضان أعمال القمة الخليجية السادسة والأربعين لأصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ينظر المراقبون والمحللون بكثير من الاهتمام للملفات المطروحة أمام القادة ومخرجات هذه القمة التي تنعقد في ظل تحديات إقليمية ودولية متسارعة، لا سيما فيما يتعلق بتنفيذ اتفاق السلام التاريخي لوقف الحرب على قطاع غزة، فيما تأتي القمة الخليجية في موعدها الدوري لتؤكد التزام المملكة الثابت بدعم مسيرة التعاون الخليجي المشترك، وأيضاً للتأكيد على الدور المحوري لمنظومة مجلس التعاون في مواجهة تلك التحديات عبر تعزيز آليات العمل الجماعي والتكاملي بين الدول الأعضاء في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية وقضايا الاستدامة والمشروعات التنموية المشتركة في مجمل القطاعات.
وبالنظر تاريخيًا إلى مسيرة مجلس التعاون على مدار أربعة وأربعين عاماً من الجهد الخليجي المشترك بأهدافه السامية، يمكن تتبع الخط الزمني من عمر هذه المنظومة الإقليمية منذ التأسيس، مروراً بمحطات التعاون المشترك، ووصولاً إلى التكامل الاستراتيجي الشامل بين دولها التي تربطها قواسم تاريخية ومصيرية راسخة ومشتركة.
مرحلة التأسيس
في 25 مايو 1981م توصل أصحاب الجلالة والسمو قادة كل من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة قطر ودولة الكويت، في اجتماع عقد بمدينة أبوظبي، إلى صيغة تعاونية تضم الدول الست تهدف إلى تحقيق التنسيق والتعاون والترابط بين دولهم في جميع الميادين وفقاً لما نص عليه النظام الأساسي للمجلس في مادته الرابعة، التي أكدت على تعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون بين مواطني دول المجلس.
ووقع القادة الخليجيون في هذا اليوم على ميثاق تأسيس ما اتفق على تسميته رسمياً بـ «مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، والذي جاءت منطلقات أهدافه واضحة في ديباجة النظام الأساسي التي شددت على ما يربط الدول الست من علاقات وروابط خاصة، وسمات مشتركة، وأنظمة حكم متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، والهوية العربية الأصيلة، والتراث الإنساني والثقافي والحضاري الواحد، والموارد الاقتصادية المشتركة، ناهيك عن الإيمان بوحدة الهدف والمصير، وأن هذا جله سوف يكتمل ويتحقق عبر توحيد مسارات التعاون داخل المجلس الذي مثل فيما بعد «البيت الخليجي»، خدمة للأهداف السامية في تحقيق الرفاهية والأمن والاستقرار لشعوبه.
وقد مهدت لهذا القرار جملةٌ من الأحداث والتحديات الإقليمية المحيطة، حيث جاء التأسيس رداً عملياً فاعلاً على تلك المنعطفات الأمنية والجيوسياسية وأيضاً التنموية التي بدأت تلوح في الإقليم آنذاك، وجاء تأسيس مجلس التعاون استجابة لتطلعات أبناء المنطقة لنوع من الوحدة العربية الإقليمية يتقاسمون هويتها وخصائصها، ويتوحدون في أحلامهم لمستقبلها القوي المشرق.
إنجازات العقدين الأولين
حقق مجلس التعاون الخليجي خطوات متسارعة على طريق التعاون والإنجاز شملت كافة المجالات والقطاعات الحيوية المهمة، إلا أن التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري والتنموي كان له الأولوية في مستهدفات المجلس ومساراته المشتركة، وعليه تم إطلاق هذا التعاون المشترك بالتوقيع في 11 نوفمبر 1981م على اتفاقية اقتصادية موحدة لتفعيل الجانب الاقتصادي للتعاون الخليجي المشترك.
وتبع ذلك تفعيل التعاون العسكري المشترك عبر قرار الموافقة على تأسيس قوة درع الجزيرة عام 1982م، وهي منظومة دفاعية مشتركة تهدف إلى توفير الأمن والردع لدول المجلس، والدفاع عن استقلالها وحماية مقدراتها ومكتسباتها، واتخذ القادة قراراً بإنشائها إيماناً بضرورة وجود قوات عسكرية مشتركة لدول مجلس التعاون تحقيقاً لهدف الحفاظ على أمن واستقرار شعوبه ومكتسبات دوله، ولمواجهة التحديات والمخاطر والتهديدات التي قد تواجه دول مجلس التعاون.
وحقق المجلس خلال العقدين الأولين من مرحلة التعاون المشترك خطوات متقدمة على صعيد تنسيق السياسات الاقتصادية والتجارية بين الدول الأعضاء، خصوصاً في مجال الرسوم الجمركية والتجارة وتنفيذ مشاريع مشتركة في مشاريع البنية التحتية مثل الربط الكهربائي والاتصالات والنقل، والتعاون الرقمي، والتعليمي، والاقتصادي. كما شهد أيضاً العقدان الأوليان منذ تأسيس مجلس التعاون تعاوناً رفيعاً وممتداً في الملفات الأمنية والشرطية ومكافحة الجريمة والإرهاب والمخدرات وضبط الحدود، ما ساهم في إعداد العديد من التشريعات والقوانين ذات الصلة.
التكامل الشامل بين الإنجاز والفرص
تتجه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية اليوم إلى مرحلة أعمق من التعاون تتجاوز التنسيق إلى التكامل الشامل في كل المجالات، ضمن رؤية مشتركة لتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار رسمها أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون، وفقاً لمتطلبات العصر وتحقيقاً لمستهدفات الأمم المتحدة الإنمائية، والتي سرعت من وتيرة الإنجاز تحقيقاً لرؤى التنمية في 2030 واستكمالها برؤى مستقبلية تمتد إلى 2050، حيث تؤكد الاجتماعات الدورية للمجلس الأعلى واللجان النوعية المنبثقة عن مجلس التعاون على أن التكامل الخليجي هو خيارٌ استراتيجي لا رجعة عنه، يستند إلى وحدة المصير والمصالح المشتركة، ويواكب التحولات الاقتصادية والتكنولوجية والرقمية العالمية.
قمم فارقة بتاريخ مجلس التعاون
على مدار 44 عاماً من المسيرة التاريخية لمجلس التعاون، شهدت القمم بعض الدورات الفارقة، سواء الاعتيادية منها أو الاستثنائية، التي فرضت أجندتها وأهميتها بحكم الظروف والتحديات والأحداث التي رافقت انعقادها، وشهدت اتخاذ قرارات مهمة على كافة الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ومنجزات رئيسية في مسيرة التعاون الخليجي المشترك، أسهمت في تعزيز التعاون والترابط والتكامل بين دول المجلس.
تاريخ طويل من التعاون والتكامل الخليجي المشترك يستحق، مع استعراض صفحاته، وقفة وفاء واجبة لاستذكار القادة المؤسسين للمجلس واستلهام جهودهم الاستثنائية التي شاركوا بها في وضع دعائم الأساس المتين لهذا الكيان الراسخ، ليبقى الحصن المنيع، والبيت الحاضن لأبنائه في وجه الأزمات والتطورات، وشاهداً على وحدة الهدف والمصير، ومستكملاً مسيرة التعاون المباركة بدعم وتوجيهات أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس، حفظهم الله ورعاهم.
