محرر الشؤون المحلية

من وراء المقود، ومن هذا المقعد ذاته لطالما حَلّق فوق السحب، جلس الكابتن ماهر سلمان، لكن هذه المرة كان كل شيء مختلفاً؛ فثقلُ الرحلة الأخيرة كان أكبر من أن تخفيه ابتسامته، هي رحلة جمعت نصف قرن من العطاء في بضع ساعات بين مدرجين.

هو لم يكن في قمرة القيادة وحده، بل احتشدت بجانبه الذكريات وصوت المحركات التي لطالما ردّدت لحنه المفضل، وإلى جانبه ابنه طلال، يحمل عنه الحلم نفسه، فيما تراقب الأسرة من المقاعد الخلفية رحلة وداع صامتة بين طيارٍ اختار السماء بيتاً له، وسماء ستظل تحفظ اسمه ما دامت تعبرها الطائرات.

هكذا وفي لحظةٍ تغمرها المشاعر وتثقلها الذكريات، أتمّ الكابتن ماهر سلمان رحلته الأخيرة كقائد للطائرة، منهياً بذلك مسيرة استثنائية امتدت لما يقارب نصف قرن من الزمن، بدأت عندما كان فتىً في السادسة عشرة من عمره، يعانق حلم الطيران بعينين لامعتين وقلبٍ يخفق بحب السماء.

منذ بدايته، لم تكن مهنة الطيران بالنسبة لماهر مجرد وظيفة، بل كانت امتداداً لروحه. كان يجد في هدير المحركات موسيقاه الخاصة، وفي الغيوم وطناً لا يشبه أي مكان آخر.

عاش عمره بين السحب، ينسج بخيوط الشغف آلاف الرحلات، تاركاً بصمة لا تُمحى في ذاكرة السماء.

الرحلة الأخيرة مع الإقامة (layover) ، التي استمرت من 16 إلى 19 يوليو، كانت مختلفة، لم تكن مجرد رحلة من البحرين إلى روما، بل وداعاً صامتاً بين رجلٍ والفضاء الذي احتضنه لعقود.

جلس في مقعده كما اعتاد، ولكن هذه المرة يرافقه الركاب الأغلى على قلبه: زوجته، ابنتاه، وأربعة من أحفاده، جاؤوا ليشهدوا اللحظة التي يطوي فيها الجدّ أسطورته الخاصة.

فيما اختتم في اليوم، الموافق 21 يوليو 2025، رحلته الأخيرة إلى دبي (دون إقامة)، برفقة مساعده في قمرة القيادة وابنه طلال، الذي كان شريك اللحظة في مشهد رمزي مؤثر.

كانت تلك الرحلة بمثابة تسليم هادئ للمسيرة، حيث جلس الابن إلى جانب والده، لا كمساعد فقط، بل كوريث طبيعي لسنوات من الخبرة والالتزام، شاهداً على انتقال الراية من جيل إلى جيل، ومن قلبٍ أحب السماء… إلى قلبٍ نشأ فيها وترعرع عليها.

اليوم، يعود الكابتن ماهر إلى الأرض، لكنّ السماء ستظلّ شاهدة على قصة رجل عشقها منذ الصغر.

شاركها.